
عن العنوان:
العنوان مكتوب على وزن عنوان كتاب شهير للكاتب المصري المعروف المرحوم مصطفى محمود. عدى ذلك فليس لي في هذا الحوار أصدقاء. وجب التنبيه. ثانيا، وجب مناقشة مسمى "أرهابي" الذي بات إشكاليا:
تكمن المشكلة في تعريف "الارهابي" كوصف من أن المصطلح دخل المعجم الحديث من بوابة حرب الادارة الامريكية مع جماعات أسلامية متطرفة. فما لبث المصطلح أن بدأ يأخد طابعا توسعيا بما يناسب أهداف الادارات الامريكية حتى وجدنا أنفسنا بعد ثورة ديسمبر، كسودانيين، ما نزال موصومين ب "الارهاب" وندخل في "مفاوضات" و "مساومات" سياسية لنرفعه عنا!
وتجد مثلا على موقع مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي تعريفا دائريا للأرهاب:
International terrorism: Violent, criminal acts committed by individuals and/or groups who are inspired by, or associated with, designated foreign terrorist organizations or nations (state-sponsored).
فيصبح بهذا الشكل "الارهابي" هو ما تقرر الادارة الامريكية كونه كذلك. وهذا بأي حال من الاحوال ليس تعريفا لغويا.
المشكلة الأخرى في التعريف هو أن كلمة "أرهابي" بدأت تتحول لكلمة معني بها الغربيون في أطار حلحلتهم لمشكلة تخصهم. فهي ليست مما نستعمله في معجمنا المحلي للتحليل والفهم. ومكان هذه الكلمة عندنا تظهر كلمات مثل: الغلاة، المتطرفون، الجهاديون، التكفيريون (هذه أكثر من غيرها تحمل مدلولات ما أعنيه بالارهابي في عرفنا لكني أرفض استعمالها كما سنرى). ومشكلة كل هذه الكلمات أنها تصف معتقدات، وليس أفعالا، وعندي كل معتقد هو محمي بل ومقدس الحماية أيا كان. (أيا كان بلا أي أستثناء، من كريم المعتقدات مثل الدين المعتدل، والأفكار الاشتراكية أو الأفروعمومية مثل التي أؤمن بها أنا، إلى النازية والفاشية والعقائد المغالية المتشددة أو التكفيرية، أي معتقد هو حق أساسي لا يمكن التعدي عليه، اللهم إلا بالنقاش والإقناع).
ووجب قول كلمة بحق "التكفير" تحديدا: أهتم عموما بتاريخ الاديان الامريكية وأجدها مثيرة عموما للدهشة. وفي هذا الاطار وجدت نفسي اشاهد العديد من الفيديوهات عن طائفة أمريكية عجيبة تدعى "شهود يهوه" وهي جزء من عدد غير قليل من الطوائف الامريكية المهتمة بصورة ربما تكون هوسية بمسألة نهاية العالم. وأشتهر عنها سعي أتباعها المحموم للتبشير بهذه النهاية والتحذير منها طرقا على أبواب الناس بابا بابا. (وأتمنى أن يأتي يوم نبشر به نحن بالشيوعية الافريقية طرقا على الابواب بابا بابا ولا أراه بعيدا). على العموم، في أطار متابعتي لمناقشات الدين بين مؤيد ومعارض لهذه الطائفة ذات القناعات المسيحية غير الأرثوذكسية (على سبيل المثال لا تؤمن هذه الطائفة بالثالوث، هي موحدة بمعنى أنها ترى أن الاله واحد وهو الذي خلق المسيح، وأن المسيح ليس ابنا لله)، وجدت أن أنصار التدين الأكثر قربا من الكنائس البروتستانتية الرسمية، إن صح التعبير، لا يرون في جماعات شهود يهوه مسيحيين. ويعبرون عن ذلك صراحة بلا مواربة. أي أنهم في عرفنا "تكفيريون" يكفرون شهود يهوه. وتساءلت: هل يحق لنا أن نجبر المسيحي المؤمن بالثالوث كأهم عقيدة دينية لديه، منذ مجمع نيقية في القرن الرابع الميلادي، أن نجبره على أعتبار شهود يهوه مسيحيين؟ هل هذا ممكن أصلا (كيف يمكن أجبار شخص على قناعة ذهنية ما أصلا؟). ومن هذا المثال نرى عبثية محاولة منع "التكفير"، فالدين في الاصل، مثل أي فكرة وجدانية أخرى، هو مساحة محدودة بسلاسل من القيود ترسم حدودا، هنالك أناس داخلها وآخرون خارجها.
لذلك أجد كل الاسماء المستعملة عندنا بوصفها لمعتقدات معينة (المغالاة، التشدد، التكفير إلخ) أو بوصفها لمسمى الحرب عموما في العرف الاسلامي (الجهاديون) هي مما لا يمكنني استعماله لوصف الحالة "الارهابية". وإذا نظرت مثلا لكلمة "مجاهد" التي تمت شيطنتها عبثا في أطار الفهم المتسرع للكتاب الغربيين للمنطقة الاسلامية، ستجدها مستعملة بكثافة عند العلمانيين الجزائرين في وصف حربهم التحريرية القومية ضد الفرنسيين. حتى أن الجريدة الرسمية للنظام العلماني الجزائري اليوم تحمل اسم "المجاهد" وهي استكمال للصحيفة التي كانت تصدر من قبل "المجاهدين" الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي و يكتب فيها مثلا كاتب علماني أفروعمومي معروف هو فرانز فانون عليه رحمة الله. والكلمة في العرف الاسلامي تعني أي نوع من القتال بغض النظر عن تفاصيل الدوافع خلفه. وبالتالي فهي بلا قدرة على الاطلاق على وصف ظاهرة "الارهاب".
ثم يحق علينا في المنطقة العربية الاسلامية أن نفهم أن ظاهرة "الارهاب الديني" هي ظاهرة تخصنا أكثر مما تخص الغربيين في الحقيقة. فأغلب ضحايا هذه الظاهرة إن كان من حوادث اغتيال المفكرين أو محاكمتهم (والتي كان لها ربما أشد الاثر في ارهاب قطاعات واسعة من الناس عن التعبير الحر عن معتقداتهم) أو بصورة أعم ما عانته المجتمعات في مالي، نايجيريا، ليبيا، النيجر، الصومال، العراق، سوريا، أفغانستان، وغيرها من تدمير وقتل عشوائي أحيانا، دع عنك الحجر على حرية التفكير والتنظيم، ووقوع النساء في السبي وغيرها من الممارسات غير المعقولة، أغلب ضحايا الارهاب هم في الحقيقة من سكان هذه المنطقة وليس الشعوب الغربية. فجماعات بوكو حرام، وداعش، والشباب الاسلامي، والقاعدة وغيرها لا تنشط بصورة رئيسية في بلدان غربية بل في بلداننا. وبالتالي فهذه مشكلتنا وليست مشكلة الغربيين أساسا. ويجب فهمها في نطاق صراعات القوة المحلية.
من هو الارهابي إذن؟
يجب فهم الارهاب بعيدا عن ربطه مباشرة بالاسلام. مع ذلك، يجب فهم أن أحدى التفسيرات الاصولية للاسلام هي مصدر رئيسي للارهاب.
فالارهاب، عندي، هو أي محاولة لفرض قانون ما عبر القوة على الناس بغير شرعية دستورية ديمقراطية. أي بلا موافقة عامة من الناس. وبالخصوص يكون الامر "أرهابيا" أذا لامس ما يعتبره هؤلاء الناس من حقوقهم الاساسية مثل حرية الضمير، الحق في التعبير والتفكير، الحق في التنظيم، الحق في المشاركة السياسية المتساوية، الحق في ممارسة الثقافة الخاصة بلا أملاءات خارجية إلخ. (أحجم هنا عن مناقشة سؤال هل يمكن أن يكون الارهاب ديمقراطيا؟ باعتبار انه لم يسبق أن حدث ذلك في التاريخ الديمقراطي الحديث، إلا أنه سؤال مثير للاهتمام نظريا بالتأكيد ولي فيه استبصارات نكتبها في مكانها) وهنا يجب أن نلاحظ أن "الارهابيين" الرئيسيين عندنا هم الانظمة العربية الرسمية أولا، ثم الجماعات الاسلامية الأرهابية في المرتبة الثانية. (وهذه ملاحظة مهمة يجب أن لا تمر عليها، عزيزي القاريء، لماما).
ويمكن تذكر أن أكبر الجماعات الارهابية تاريخيا لم تكن اسلامية في الحقيقة: مجموعة بول بوت الكمبودي الشيوعية، أو النظام الشيوعي الاستاليني و الماوي، الانظمة النازية والفاشية الاوروبية، القوميين الاندونيسيين ألخ. فمحاولة فهم هذه الظاهرة اسلاميا فقط، وليس بوصفها جزءا من تاريخ صراعات القوة الأجتماعية هي محاولة ستنتهي بالفشل (مثل محاولة الانظمة العربية الارهابية هي نفسها لمحاربة الارهاب الديني).
قصة الحوار:
وجدت نفسي في داخل مجموعة واتساب مؤخرا (بعد إنطلاق حرب أبريل إن لم تخني الذاكرة). وبالمجموعة نفر كريم لا أعرف منهم الكثيرين شخصيا إلا أنه وضح لي من مداخلاتهم أنه يمكن وصفهم بالفاعلين أو المهتمين بالشأن العام إن لم نقل انهم طبقة من طبقات النخبة (الكلمة "نخبة" أحيانا تشير لمعنى ايجابي مثل القول "جنود النخبة" وبالتالي تفقد قدرتها على الوصف في حالة النخبة السياسية. النخبة في الحقيقة هي وصف وظيفي محايد، فقد يكون هنالك "نخب" عاطلة أو معطلة بلا تأثير، مثل حالتنا في هذه المجموعة)، على العموم، ككاتب وجدت نفسي أشارك بعض ما أكتبه في هذه المجموعة واشارك في النقاش مع بعض الاعضاء فيما يكتب. وهي في الحقيقة مجموعة بدرجة نشاط محدود يسهل متابعتها. وأود القول أنني أحب هذه التجمعات وكنت سابقا في فترة إقامتي في السودان مدمنا على جلسات السمر والنقاش الثقافي السياسي على شارع النيل مثلا.
وكديمقراطي، أي ككاتب مؤمن بأن حل المشكلة السودانية يكمن اساسا في الديمقراطية، كمشروع سياسي واع بنفسه استراتيجيا وليس كفكرة لطيفة عابرة، وجدت نفسي مدافعا أكثر من مرة عن ما يمكنني وصفه ب "الفرضية الديمقراطية" كحل للمشكلة التاريخية السودانية. وكما هو متوقع أكون دائما في موقع الاقلية الذي لا أمله أو أستثقله في العادة، فلو كان أنصار الديمقراطية بين النخبة السودانية في موقع اغلبية لما أحتجنا للعك المحزن الحالي عموما، وبالتالي فهو واجب محبب أقوم به إلى حين إفاقة الامة على حقائقها الجذرية.
وتكرر علي في المجموعة إدعاء (أراه ساذجا بصورة لا تصدق، مع الاحترام لأصحابه) بأن الديمقراطية تشكيل غربي غريب عنا وبالتالي لا يمكن أن يكن حلا لنا. وذهبت في مناقشة هذا الادعاء معهم بعيدا حتى وصلت لمدرسة في تاريخ الديمقراطية ترى أنها من نتاج لقاء الغربيين مع السكان الاصليين لاقليم كوبيك في كندا. وبالتالي حتى من الناحية الشكلية لا يمكن أعتبارها منتجا غربيا خالصا. ثم وبصورة أكثر جدية بدأت أعدد لهؤلاء المناهضين لكل ما هو غربي، أن أكبر الديمقراطيات في العالم في اندونيسيا أو الهند مثلا هي غير غربية. وأن لنا جيران (كينيا، بدرجة أقل تانزانيا) ديمقراطيون، وأكبر مجتمع أفريقي من حيث عدد السكان وحجم الاقتصاد في نايجيريا وجنوب افريقيا هم ديمقراطيون، ناهيك عن ديمقراطيات رصينة أخرى تعم القارة الافريقية وأمريكا اللاتينية من بوتسوانا إلى كولمبيا تمثل أنواعا عامة من الشعوب ذات لون العين غير الاخضر. محاولا في تفصيلي هذا أن ألفت انتباه هؤلاء الشباب عن "عمود الانارة" الغربي الذي تحلقوا حوله شاهقين بأفواه مفتوحة بلهاء و"ريالتهم" تسيل "أوب طفى، أوب ولع" في تعبير مسرحي مضحك لعبد الله علي ابراهيم.
واخذ أحيانا مثل أصحاب هذه الادعاءات الكسولة بالشدة. فوصفت قولهم بغربية الديمقراطية اليوم بالهبل أو البلاهة. وهو في الحقيقة أسوأ من ذلك إلا أنني طلبت الاعتدال في القول.
وكنتيجة متوقعة وجدت نفسي في داخل نقاش زادت حدة النبرة فيه عن ما يسمح باكماله. فأخذ "الارهابي" كلمتي كتبرير وبدأ يهاجمني شخصيا مهددا لي أنني لو كنت امامه لكان ضربني كفين في الوجه وربما تبعتهما قبضته تبقر بطني المسكينة بقرا. وتوقفت عن النقاش محاولا تهدئة الشخص بالاعتذار وغيرها. فلي عقيدة عامة أنني لا أغضب في الفضاء العام (في حياتي الخاصة كنت ومازلت قليل الصبر على الناس عموما، ولو أني بمرور العمر ازددت قدرة على المصابرة)، إلا أنني في الفضاء العام أرى أن من أهم التربية فصل المشاعر الخاصة عن النقاش العام إحتراما لعموم الخلق وحقهم.
وعموما ليس في عنف هذا الشخص الشخصي ما يدعوا لكتابة مقال. فنحن مجتمع أنفتحت في وجهنا ماسورة العنف الجنجويدي، بما في ذلك الابادات الجماعية، وسيكون متوقعا التطبيع مع العنف بصورة عامة حتى نشافي إن شاء الله جراحنا العامة بالعدل. لكن ما شد أنتباهي، وفاجأني في الحقيقة، هو استعمال هذا الشخص في معرض كلامه معي ونقاشه مع غيري لعبارات مثل:
"الناس ديل تاني ما عندنا ليهم غير كده والسلاح". "في السودان الأفضل طبعا في رأيي المتواضع هو نظام شورى وتوافق بين المكونات المجتمعية (ما معانا علمانيين ولا أولاد جامعة الخرطوم)."
"أنا شخصيا ما توافقي مع العلمانيين والعياذ بالله، ومعاي مسلمين كتار ومنهم مجاهدين في الجبهات الآن: ما عندنا ليهم حاجة تاني غير الجهاد والسلاح. ودي حالة حا تكبر وتزداد مع مرور الوقت والأحداث المتدحرجة الفترة الجاية. (في ناس منهم قلال جدا أولاد ناس وكويسين نوعا ما: فديل ممكن يكون معاهم حوار ما، انطلاقا من مسلمة التسليم بالشريعة وهيمنتها على كل الفضاءات)"
وأقول فاجأني مع انه ليس مفاجئا. فمن جهة إذا نظرت لكثير جدا من دول المسلمين تجد هذا المنطق الارهابي (تاني ما عندنا ليك غير السلاح) مرفوعا في وجه شعوبها يوميا. ومن قبل تنظيمات اسلامية عديدة تشابه ربما توجهات هذا "الارهابي". من ليبيا إلى الصومال إلى سوريا ألخ. وسيكون اعتقادنا كسودانيين بحتمية التسامح العام عندنا نوعا من السذاجة.
على الصعيد الآخر فاجأني كلام هذا الشخص لانني لم اعتد عليه. فأذكر مثلا أننا ناقشنا بصورة علنية في أيام الجامعة كتاب ريتشارد دوكنز المعروف "وهم الاله" بعضنا في النقاش مسلم مؤمن وبعضنا ملحد وبأريحية. بل كان معتادا بين الاسلاميين وخصومهم مناقشة أصول الدين مثل صحة كتب البخاري ومسلم أو غيرها مما قد يظن أنه من محرمات الحوار في دول مسلمة أخرى. ونعلن علمانيتنا منذ فترة في السودان بلا مواربة فأهم حركاتنا السياسية تاريخيا علمانية (بأنواع مختلفة من العلمانية ربما لن يهتم دعاة العنف ضدها لدراستها وفهمها)، أبتداءا من حزبنا الشيوعي الفتي بقيادة الشهيد عبد الخالق محجوب (قبل أن يختفي بعد ١٩٧١)، مرورا بحركة الشهيد جون قرنق الشعبية (التي أنتصرت للمفارقة ضد عنف النظام الاسلامي وفرضت عليه اتفاقية سلام في مصلحتها) ووصولا لحركة ربما تطرفت في العلمانية حاليا وترفع السلاح منذ فترة في جبال النوبة بقيادة عبد العزيز الحلو. وكنت كتبت مقالا في صحيفة الاخبار اللبنانية أبا ثورة ديسمبر أفصل فيه لثورة علمانية الطابع توضح "أستعداد العلماني السوداني للموت" (يبدو أن ما يجري في لبنان قد اثر على صحيفة الاخبار ولم استطع ان أجد رابطا للمقال لكن يمكن أن تقرأ نسخته قبل التحرير هنا:)
ففاجأني ربما وجدانيا التحول في الخطاب العام الذي جعل من حديث مثل هذا الارهابي في مجموعة عامة بهذا الشكل ممكنا، بعد أن كان مثل هذا الخطاب أسير دوائر داعشية وأرهابية أخرى مغلقة. ويجب التركيز جيدا في ما سأقوله هنا: سبب عدم شيوع هذا الخطاب في السودان هو وجود الحركة الاسلامية السودانية بقيادة المرحوم حسن الترابي كحركة سياسية تاريخية ذات جذور ضاربة بين السودانيين. وكانت هذه الحركة قد طورت بمرور الوقت، في الخطاب والممارسة، قدرا من التسامح النظري مع الآخرين إنتهى بزعيمها حسن الترابي مثلا ينتمي عبر تنظيمه لتحالف من القوى المعارضة في نهاية التسعينات وبداية الالفية أغلبه من الاحزاب العلمانية. بل وأدت مراجعات حسن الترابي خصوصا، الفقهية والفكرية، لإنفتاح في الفكر الاسلامي السوداني ذهب في تداركه لمصادر التفكير المنغلق بعيدا. فكنت أنا مثلا كطالب في جامعة الخرطوم، بصورة جزئية، نتاج لأفكار حسن الترابي الذي أذاعها بيننا تلاميذه حول مسائل الصحة التاريخية لكتب مثل البخاري ومسلم تم تقديسها اعتباطا في دوائر سلفية. فالحركة الاسلامية السوداني بخلاف تنظيمات مثل القاعدة وداعش وحركة الشباب و بوكو حرام، هي ليست تنظيما خارجا على المجتمع يريد تركيع الناس عبر السلاح ابتداءا، بل هي حركة اجتماعية قاعدية وجزء من تاريخ السودانيين. وبوجودها تم تحجيم التيارات الأرهابية في السودان.
على العموم، واصلت حواري، جادا في بعض الاحيان وساخرا في أحيان أخرى، مع هذا الارهابي الذي يهددني كعلماني بالسلاح (كأنه هنالك قانون كوني يمنع عن العلمانيين حمل السلاح أو ممارسة العنف أو الدفاع عن النفس، هنالك تصور طفولي أحيانا عند الارهابيين الاسلاميين انهم وحدهم قادرون على ممارسة العنف). واصلت الحوار مع الارهابي لأتفاجأ في مفارقة كوميدية أنه بدأ يستدل في سعيه للعنف كحل للصراعات الايديولوجية بيننا كسودانيين بفرانز فانون ونظريته حول العنف. فلم يجد الاسلامي الارهابي، الذي يرى أنه لا يحق بحق العلماني إلا النزال تحت ظلال السيوف، غير العلماني (الملحد في الغالب) فرانز فانون ليستأنس برأيه. وهذا يشير في الحقيقة لأن الارهاب الاسلامي ما هو إلا حامل لتيار ارهابي نخبوي عام وجب علينا أن نفهم مصادره النفسية في تراكيب العنف التاريخي عندنا: الابادات الرواندية، جيش الرب اليوغندي، النظام السوري الاسدي، نظام صدام حسين إلخ كل تلك التيارات العنيفة الدولتية القمعية هي تركيب وجداني سياسي تاريخي، الحركات الارهابية الاسلامية هي تمظهر آخر له فقط.
وربما كان الطيب صالح، بشاعريته، قد بدأ هذه المناقشة التي لم نكملها بعد. وندفع ثمن التأخر يوميا في بلداننا من مقديشو إلى دمشق:
إننى أسمع فى هذه المحكمة صليل سيوف الرومان فى قرطاجة، وقعقعة سنابك خيل اللنبي و هي تطأ أرض القدس،البواخر مخرت أول مرة تحمل المدافع لا الخبز ،وسكك الحديد أنشئت أصلا لنقل الجنود. و قد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول "نعم" بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذى لم يشهد العالم مثيله من قبل فى السوم وفى فردان، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي، إنني جئتكم غازياً فى عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ. أنا لست عطيلا. عطيل كان أكذوبة.
ما الذي يجب فعله؟
لأن ما سأقوله لاحقا سيكون حادا. وددت أن أذكر القاريء بما أؤمن به بصورة حاسمة: "من حق أي شخص أن يؤمن بما يريد، وأن يعبر بالقول بما يريد، بلا حدود، اللهم إلا ما يؤذي شخصا آخرا بصورة مباشرة مثل الدعوة مثلا لقتل شخص مع نشر محل سكنه وأسرته، أما ما عدى ذلك من الخطاب العام والتنظيم فهو مما أعتقد بأن له حماية قصوى، هو حق أصيل لا مساومة حوله، يشمل ذلك الارهابي الذي ناقشته في الاعلى ما لم يتعد القول الى الفعل".
بعد هذا التوضيح وجب القول بأنني أعتقد بأنه لا يجب مساومة أي تشكيل أرهابي أو التعاطي معه بالحسنى. فحال تحول الفرد أو التنظيم من مجرد القول متوجها نحو فرض أفكاره على الاخرين بالقوة، والتخويف، والقهر، مثلما تفعل الجماعات الارهابية الاسلامية في بلداننا في الصومال ونيجيريا ومالي وسوريا وغيرها، وجد التعامل مع ذلك بالقوة. واظاهر في هذا الدعوة الروائي والمفكر النيجيري وولي سوينكا في تعليقه حول بوكو حرام. فقد كان الاديب النيجيري قد قال مرة أن من مهامه رفع هامة نوع من "الجندية" Militancy الافريقية في وجه شعارات الشغب بالعنف الذي ترفعه جماعات مثل بوكو حرام. فتجده يقول مثلا:
“We’ve reached a state where there’s a party of life and a party of death,” he said, and those on the side of life must fight for their belief “as ruthlessly” as the foe they face.
فوجب النظر لخطورة الارهاب، الاسلامي وغير الاسلامي، على مجتمعاتنا باعتباره خطرا وجوديا مثله مثل جماعات غوغائية كالدعم السريع وغيرها، فجميعهم يريد استبدال المنطق السلمي السياسي بالعنف كحل ثم الصعود فوق دماء وجثث شعوبنا لسلطة أو سلطات سياسية وثقافية وغيرها يرون أن لهم حقا ألهيا أو جهويا فيها. وبالتالي وجب مواجهة عنفهم المغتصب غير الشرعي هذا بالعنف الديمقراطي الشرعي عبر حق الشعوب في الدفاع عن نفسها. مثلما فعل الشعب النيجيري ضد بوكو حرام أو فعل الشعب العراقي ضد داعش. فمحاولة النقاش بينما يرفع الطرف الاخر تهديده بالسلاح غير مجدية وغير أخلاقية حتى فهي قد تجعل الطرف الاخر يظن في كلامه وجاهة. وبالتالي تدفعه للتمادي في العنف. وترفع التكلفة.
هنالك شرعية واحدة ممكنة وهي الشرعية الدستورية الديمقراطية التي يتوافق حولها الناس بالحسنى. وكل سلطة أو جماعة سلطوية، عدى ذلك وجب اسقاطها وهزيمتها، بالوسائل السلمية إن كان ذلك ممكنا، وإن هددت الناس بالسلاح وجب الدفاع ضدها بالسلاح قولا واحدا.
ويمكن القول انه في حالة الارهاب الاسلامي تحديدا فهزيمة هؤلاء المعاقين روحيا اسهل مما هو متصور. فالعقل الذي تشرب فكرة تحريم النقاش العقلي واستبدله بالسعي نحو طبقات من العنف لا نهائية. هو عقل غير قادر حتى على ادارة العنف. أغبياء وحتى جبناء هيكليا. فالشجاعة عادة هي في تجويد الفكرة بالعقل تتحول لنور يضيئ القلب والروح. أما العقل المنغلق فهو منفعل غير شجاع.
علق الارهابي في أحدى فقرات النقاش حول انه يقبل مثلا الترتيبات الإجرائية (يعني النفاقية) التي يقوم بها أحمد الشرع (الجولاني) وجماعته في سوريا تكتيكا وليس قناعة (حسب رأيه):
"في دورة حضارية جديدة تماما بدأت عنوانها وتفاصيلها الدين والإسلام والشريعة والأخلاق والقيم، والأعراف الثقافية التي لا تضاد كل ما سبق…خمسة سنة لي عشرة سنة بالكتيير: حا تتغير كل البنى الموجودة دي، وحا يتغير المجال التداولي وكل المعجم الحضاري…
وما حا تسمع مصطلحات الديمقراطية والحداثة والعلمنة والقومية والثورة والماركسية…الخ وكل المعجم ده حا يبقى ستقيما.
(ممكن طبعا خلال السنين الخمس دي يكون في تكتيكات، زي البعملها الجولاني دي، لكنها تكتيكات ظرفية شكلية ما جوهرية، تطلع تقول كلام حلو وتتصرف تحت بشكل خشن)"
ومثل هذا الكسل العقلي، الذي ينتهي لحالة نفاقية تتحالف فيها جماعات أرهابية تقمع وترهب العلمانيين في شعبها بينما تتحالف مع حكومة علمانية تركية، هو نموذج لأن هذه المجموعات هي هيكليا بلا مشروع. وتتحول بسرعة على أرض الواقع لكلاب ضالة تقتل وتمارس العنف في شكل عشوائي غير قادر على الاستدامة وبمنطق داخلي جنوني مثلما حدث في العراق.
(أود التنبيه هنا لأن قراءة هذا المغفل لما يقوم به أحمد الشرع قد تكون غير دقيقة، ربما حدثت مراجعات لا نعلمها داخل الحركات الاسلامية السورية، جعلتهم يرو لا جدوى استعمال العنف كطريق سياسي مع شعبهم، أو نتمنى ذلك)
قلت مرة قبل الحرب الحالية أن مشروع الديمقراطية سيصلح حتى في حالة حدوث حرب أهلية (والحقيقة أي مشروع لا يصلح للحرب به هو مشروع غير جاد عموما). لأنه يرتب قطاعات سودانية واسعة حول مصالحها والحرب هي امتداد آخر للسياسة في النهاية. وأقول الآن أن مشروع الديمقراطية قادر حتى على مواجهة عنف المشاريع الارهابية الجنونية التي أجتاحت منطقتنا للاسف ويبدوا أنها ستصل قريبا لبلدنا السودان. فالعنف في أجود صوره هو الجهاد للحق وعبر الحق. وليس هنالك حق ولا حقيقة أكثر أشراقا من حق الشعوب في حكم نفسها. وكنا كسودانيين قد وثقنا لطلبنا لهذا الحق بدماء غزيرة سكبت على ثورات ثلاث.
دماء تجعلنا، جدليا، لا نخاف الدم عموما ما دام يسكب ليسقي شجرة الحرية. فبصورة من الصور، لسوء حظ الارهابيين ربما، تحول الشعب السوداني لوجدان غريب، غير قابل للارهاب.
وقل اللهم مالك الملك. تؤتي الملك من تشاء.
هي صلة التيارات المتطرفة معقدة شوية مع الترابي وحركته، والمقطع من المقال البتناول الجزء ده في ظني عايز مراجعه. على سبيل المثال نحن ما عندنا عمليات ارهابية كتيرة في السودان بالمقارنة مع محيطنا، لكن واحد من اسوأها كان في التسعينات ونفذها الخليفي الليبي وقتل عشرات المصلين في جامع تابع لجماعه انصار السنة (شوف الشربكة دي كيف)، والخليفي كان احد معاوني بن لادن (ضيف الترابي وقتها)..وبالطبع كلاهما نفى المسؤولية عن ما حصل.
وانا شايف انه بين الاسلاميين المين استريم وبين المتطرفين في تخادم واضح، وان كان يميل لجهة الطرف الاول، البتعامل مع التيار دا وجماهيره كمغفلين نافعين، يحشدوهم ضد خصومهم باستثارة العواطف الدينية لكن ما بدوهم اهمية كبيرة في اتخاذ القرار ولا بشاركوهم المكاسب السياسية، وهم كمان دي حدود قدرتهم وعلي حسب تعبيرك المبتكر جبناء هيكليا، اخرهم يمارسو التطهر من المنابر او يخشو قروب الواتساب يهددوك فيه، والفائدة الاخرى انه كلما زاد التيار المتطرف جنونا وخبالا كلما جعلوا التيار الاخر يظهر بمظهر المعتدل الذي يمكن الاخذ والرد معه. والله اعلم واحكم.
صديق؟؟؟! بالله عليك هل هم اهل للصحبة