
ثانيا: ما هي أفضل طريقة ممكنة لتنظيم مجتمعاتنا من الأسفل للأعلى بحيث نضمن فعالية ثقافية/أجتماعية تحقق مصالحنا المحلية هنا في الولايات المتحدة، وكذلك تمنحنا فعالية سياسية في التأثير على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه السودان؟
نواصل في هذا الجزء من السلسلة التطرق لسؤالنا الثاني أعلاه. ونبدأ الإجابة على هذا السؤال بفهم العلاقة بين الطليعة والديمقراطية في مسارنا المقترح.
١. الطليعة:
لنفهم ما نعني بالطليعة علينا أن نقرأ الإقتباس التالي من الورقة أدناه والتي من عمل الباحثين شبهة براساد و فيليب ساباتك (بترجمتي):
في النهاية، فإننا نحاجج بأن الظروف الهيكلية ستؤدي، في أطار السعي لخلق مجموعات المصالح Interest Groups، لضرورة التحرك من الأعلى إلى الأسفل عبر النخب بدل العمل من أسفل الى أعلى عبر العمل القاعدي Grassroots. لرواد العمل السياسي Political Entrepreneurs المعرفة، الموارد و شبكات العلاقات الشخصية التي تمكنهم من ادارة التحديات المتعلقة بتأسيس المنظمات وممارس اعمال الضغط Lobbying، وبالتالي قيادة تحرك مجتمعات المهاجرين. إن الوضع الخاص لمجتمعات المهاجرين في الولايات المتحدة تجعل لعملية الريادة Entrepreneurship أهمية خاصة. لأن اعضاء هذه المجتمعات من المهاجرين أغلبهم حديثوا الوصول للولايات المتحدة، ولذلك فإنهم، بعكس بقية المجتمعات المتواجدة أصلا، من غير المتوقع أن يكونوا على دراية بالنظام السياسي الامريكي أو يشعرون بالارتياح للتعامل مع السياسة الامريكية عموما.
كذلك، فإن المهاجرين في العادة يمثلون كتلا أقل حجما مقارنة ببقية الكتل الموجودة اصلا؛ أي كتلة معتبرة من سكان الولايات المتحدة ستكون أكبر من مجتمع المهاجرين المعين، حيث يبلغ تعداد هذه المجتمعات في المتوسط حوالي ٣٥٠ ألف نسمة فقط في العام ٢٠١٠.
ويذهب من بعد ذلك الكاتبان للقول بأن مجموعات رواد السياسة من النخب التي تقوم بانشاء مجموعات المصالح لمجتمعات المهاجرين، تحتاج لدرجة من المعرفة المتخصصة والأريحية في العمل السياسي الاجتماعي بما يمكنها من تعميق الصلات بين بلدها الام وبلد الاقامة. الامر الذي يتطلب دراية بمسألة السياسة الخارجية. وذهب الكاتبان كذلك للتأكيد على هذه النقطة فيما يخص الولايات المتحدة على وجه التحديد، فالنظام السياسي الامريكي يحتاج لدرجة كبيرة من القدرة المالية والسياسية للتمكن من الوصول لصانعي القرار. ثم أن مجال السياسة الخارجية الامريكي هو مجال شديد التخصصية وقل أن يحرك جموعا غفيرة من المواطنين في القاعدة حتى بالنسبة للمواطنين المتواجدين سلفا. وبالتالي يخلص الباحثان لأن انشاء مجموعات المصالح لمجتمعات المهاجرين Diaspora Interest Groups، هو مما تقوم به نخب، رواد سياسة في تعبيرهم، تملك شروط العمل الاجتماعي واسبابه.
وهنا يمكن القول وبالرجوع لحالتنا السودانية تحديدا، بأنه سيكون بناء التنظيم الخاص بنا، مجموعة أو مجموعات المصالح السودانية Sudanese Interest Group/s، سيكون بحاجة لمجموعة (طليعة) في تسميتنا. (بتعبير الكاتبين مجموعة من رواد السياسة أو النخبة). سيكون على هذه المجموعة أن تضح الهياكل الاولية التفصيلية لشكل عملية التنظيم. وأن تقوم بالتواصل مع محامين امريكيين لتحديد موقع التنظيم من القانون الامريكي (غالبا سيكون مزيج من منظمات الضغط تحت التصنيف 501c4 و ال Political Action Committee) وكذلك التأكد من اتباع تعليمات قانون تسجيل المنظمات الاجنبية Foreign Agents Registration Act (لا أقول بأن هذا العمل سيكون مندرجا تحت مسمى المنظمات الأجنبية فكل جماعات الضغط الكوبية و الاسرائيلية والهندية والارمنية ليست بدورها مندرجة تحت هذا المسمى وتعمل بصفتها الامريكية البحتة و إن كان لمحاولة التأثير لصالح دولها الام، إلا أنني فقط أحاول شرح نوع التعقيدات القانونية التي سيكون على الطليعة تذليل امرها لبقية السودانيين.
ثم يأتي الدور على عملية جمع التبرعات التأسيسية. وسيكون في هذا المجال على الطليعة كتابة مقترح مفصل للتنظيم (يعمل هذا المقال لوضع الهيكل العام لمثل هذه الكتابة) ثم استعمال شبكات علاقاتها العامة للوصول لبعض ميسوري الحال من السودانيين والقدرة على توضيح أن لمثل هذا الفعل اثر قصير، واكثر من ذلك بعيد المدى على هذه النخب الميسورة مما يحفز دعمها، وكذلك على المجتمع السوداني ككل مما يحفز مشاعر الانتماء عندها (أي مقترح لا يمكن ان يخلوا من تصور اقتصادي لمصالح السودانيين في امريكا وإلا تحول لعمل ليس له سيقان يقف عليها).
وهكذا نرى أن للطليعة أهمية حيوية في تمكين الخطوات الاولى لعملية التنظيم في شكل مجموعة أو مجموعات مصالح سودانية.
لكن وجب أن نقول ونركز على الآتي: للطليعة اهمية ايديولوجية كذلك. يقترح كاتب المقال على مجموعات الطليعة أن تكون نفسها داخل مساحات مغلقة تعتمد طريقة الدعوة Invitation للانضمام وليست مفتوحة. بحيث تكون هذه المجموعات الاولية متجانسة ولها نفس الاهداف والتصورات عموما
(أقترح مثلا المحددات الاساسية الاتية: الالتزام تجاه استقلال السودان وسيادته ورفض اي ارتهان للخارج. الالتزام بالديمقراطية كهدف اعلى للتأسيس للدولة السودانية. الالتزام بفهم تأسيسي للمشروع الوطني السوداني يستصحب تجارب السودانيين منذ ١٩٢٤ إلى اليوم بدون اقصاء لاي من التيارات والوسطية بينها. الالتزام بالبناء القاعدي للمجتمع السوداني في شكل ديمقراطيات محلية ومناطقية (فيدرالية) ومنظمات مجتمع مدني ديمقراطية أي نقابات لجان احياء منظمات دينية منظمات نسوية ألخ).
ويفضل أن تتم جلسات حوارية مفصلة مع مثقفين ومختصين بحيث تتدرب هذه المجموعة الاولية على الحوار بينها وفهم بعضها الاخر أولا قبل الشروع في العمل الجماعي. ثم تتوسع هذه المجموعة بصورة بطيئة عبر نظام الدعوة.
سيكون على هذه المجموعة ان تلتزم الشفافية تجاه مجتمعها. فالوجود في مجموعات عمل مبنية على القناعات والمباديء ليس عيبا. اللهم إلا أن الشفافية ضرورية فيه حتى لا تتحول هذه المجموعات لمجموعات تآمرية تحت السطح. عبر هذه المجموعة الصغيرة يأتي تكوين التنظيمات الجامعة الكبيرة الديمقراطية المفتوحة لكل السودانيين انضماما وتبرعا. وتدار التنظيمات الكبيرة بالتالي عبر التصويت الانتخابي من العضوية. وتعمل الطليعة بالتالي في العلن لشحذ الناس خلف ارائها والتفاوض مع المعارضين ألخ. بحيث يكون الهيكل هو التالي:
(مجموعات طليعة بتوجه ايديولوجي واضح، في مساحات مغلقة تعتمد نظام الدعوة) > تقوم بإنشاء والمساهمة في تطوير (تنظيمات مفتوحة لكل السودانيين وتعتمد نمط التقرير الديمقراطي، وفي داخلها تعمل الطلائع معرفة بتوجهاتها الايديولوجية بغير مواربة)
والمتتبع للتجربة الهندية في التنظيم. المفصلة في الورقة اعلاه. سيجد أنه من خلال دراسة تجربتي الهنود في التنظيم: أولا The India League of America بين عامي ١٩٣٨ الى ١٩٥٩، والذي كان يهتم بالضغط على الكونغريس الامريكي بحيث يؤيد استقلال الهند وقتها. ثم تجربة ال U.S.-India Political Action Committee (USINPAC) والمتأسسة عام ٢٠٠٢ بغرض تعزيز مصالح الهنود الامريكيين في الولايات المتحدة وتحسين علاقات البلدين تجاريا. المتتبع لهذه التجارب سيجد أنه ليس هنالك تعارض بين البداية عبر نخب صغيرة ذات رؤية متجانسة واضحة ثم تكوين منظمات تسعى للعمل مع و عبر القواعد grassroots. وسيكون المحك في هذه العملية هو ألتزام الشفافية، والنزاهة والوضوح من جانب المجموعات الطليعية. والتزام الديمقراطية في العمل القاعدي.
٢. الديمقراطية:
يذهب الباحثان شبهة براساد و فيليب ساباتك في ورقتهما اعلاه إلى أن من أهم محددات نجاح مجتمعات المهاجرين في تنظيم نفسها بفعالية هو "الخبرة الديمقراطية". ويعني الكاتبان بذلك خبرة هذه المجتمعات مع الديمقراطية في وطنهم الامم. الامر الذي يفتح المجال لقدرة أكبر على ممارسة العمل الديمقراطي بين ابناء المهاجرين نفسهم. ثم التمرس على العمل داخل النظام السياسي الديمقراطي الامريكي.
و في الكتاب Ethnic Identity Groups and U.S. Foreign Policy يوضح الكاتب توماس امبروسيو في الصفحات ١٠ ألى ١٣ مختلف النقاط التي تزيد من قوة وفعالية تنظيم المهاجرين. نذكر منها هنا:
١. القوة التنظيمية: بمعنى وحدة المنظمة، وجود جهاز ضغط Lobbying محترف داخلها. وكذلك قوتها المادية (النقدية).
٢. الطاقة الانتخابية للعضوية: بمعنى مقدار مشاركة عضوية المنظمة في الانتخابات الامريكية وأماكن تركز ابناء الجالية المعينة. على سبيل المثال وجود ابناء الجالية بعدد كثيف في دائرة انتخابية معينة ونسب مشاركة عالية قد تجعل من هذه الجالية كتلة انتخابية لها تأثير عالي حتى وإن كان العدد الكلي لابناء الجالية قليلا على مستوى القطر ككل.
٣. القدرة على التأثير على الرأي العام: وجود رسالة ذات رواج بين الامريكيين عموما تستطيع الجالية أن تنشرها بفعالية.
٤. القدرة على خلق شراكات سياسية: قدرة ابناء الجالية ليس للوصول الى صناع القرار (النائب البرلماني في المنطقة) فقط بل وكذلك توفير قاعدة مالية (تبرعات)، أنتخابية (اصوات) و تنظيمية (متطوعين) ثابتة له. بحيث تتحول العلاقة من مجرد التأثير إلى علاقة شراكة مع النائب المعين.
كل هذه الجوانب لا يمكن أن تتم إلا بعملية ديمقراطية قاعدية داخل الجالية. ديمقراطية من حيث طريقة اتخاذ القرار داخل المؤسسة بحيث يشعر كل الاعضاء بأن لهم وزن انتخابي. وديمقراطية من حيث الاعتماد على تبرعات الجالية بصورة واسعة. وديمقراطية من حيث اعتماد اسلوب الحوار البناء والتفاوض كوسيلة لادارة العمل وليس الفوقية الادارية المبالغ فيها.
كل ذلك يمثل تحديا. لضعف ثقافتنا وتجربتنا الديمقراطية في البلد الام. فوجب التركيز على هذه المقترحات بالنسبة للطليعة:
١. قبل البدء في العمل التنظيمي تعقد جلسات تدريب على الديمقراطية وتوضيح كيفية تعامل الطليعة مع القواعد لاحقا بما يضمن نوعا من الاريحية الديمقراطية بين اعضاء الطليعة. (أن القرار الديمقراطي مقبول حتى وان خالف التوجه المقترح من قبل الطليعة، وأنه يمكن تغيير رأي الاغلبية بالاقناع والحفاظ على منصات الحوار البناء الاخلاقي كهدف استراتيجي يضمن طول نفس المنظمة ألخ).
٢. تكوين علاقة بين الطليعة والقاعدة لا تقوم على مجرد الخبرة التنظيمية (تأسيس المنظمة، الشكل القانوني، أدارة الانتخابات ألخ)، بل كذلك على فهم عميق من قبل الطليعة لمصالح القاعدة و العمل بصورة منهجية عبر المقترحات المفصلة والمساهمة الفاعلة في تحقيق هذه التطلعات. فإذا قامت طليعة سودانية مثلا بتكوين قواعد بيانات أو صحيفة سودانية الكترونية تنشر اخبار السودانيين في امريكا، أو قامت بتوفير دراسة أولية لكيفية انشاء مدرسة سودانية. أو قامت بتنظيم مؤتمر اقتصادي خرج باوراق مفيدة. فإن هذه الطليعة تكسب عبر المساهمة بصورة رصينة في تحقيق مصالح السودانيين قواعد ديمقراطية ستكون أصلب مما تكسبه بمجرد الخطاب.
٣. الفصل بين المجموعات المصلحية المختلفة. وأدوارها المعينة. وبين الرؤى السياسية الايديولوجية قدر المستطاع. فعلى سبيل المثال المنظمة المعنية بأنشاء مدرسة للسودانيين يجب أن تسعى الطليعة لتقليل حدة الخلاف الايديولوجي فيها. بحيث تكون بالفعل مؤسسة سودانية جامعة. أما على سبيل المثال عندما يتعلق الامر بالضغط سياسيا من أجل تجريم الدعم السريع دوليا فتلك مساحة للاصطفاف الايديولوجي تحسم ديمقراطيا داخل جماعة الضغط السياسي. وعي الطليعة بنفسها كمجموعة لها واجبات تنظيمية لمجتمعها ثم رؤى ايديولوجية معينة. وفصلها بين الامرين. سيكون محوريا في امكان التوفيق بين الطليعة و الديمقراطية.
نأتي في الحلقة القادمة لنشرح خطوات العمل المقترحة للبدء في تكوين لبنات التنظيم القاعدي الديمقراطي.