هذا الاسبوع في أمريكا ٢: عودة التعليم الديني في تكساس، ممارسات جنود الاحتلال تحت عيون النيويورك تايمز، والطعام السام مع تاكر كارلسون
سلسلة مقالات دورية عن الولايات المتحدة كما اعرفها
أسبوع ١ ديسمبر ٢٠٢٤
قبل البداية، إقرأ المقدمة للسلسلة:
إلى أخبار هذا الاسبوع:
١. عودة التعليم الديني في تكساس:
نشرت الاسوشيتيد بريس خبرا مفاده أن البرلمان الولائي في تكساس قد أجاز للمدارس الحكومية تدريس تعاليم مقتبسة من الانجيل لأطفال الصفوف الدنيا من الحضانة وإلى الصف الخامس. وفي حين لم يقر البرلمان اجبار المدارس الحكومية كما نسميها في السودان (أو بالأصح العامة في التعبير الامريكي Public Schools) على تدريس المناهج الإنجيلية إن صح التعبير، إلا أنه أباح للمدارس الراغبة تدريس مثل هذه المناهج ووضع لها توضيحات عامة. وبهذا القرار يمكن أن يتأثر ٥ مليون طالب في المدارس العامة في ولاية تكساس.
أنتبهوا أيها الآباء:
وبالتأكيد يهم مثل الخبر الأباء السودانيين أو المسلمين الأمريكيين من قراء هذه المدونة لأسباب واضحة. وسيكون من الضروري بالنسبة للمجتمعات المسلمة عموما في أمريكا متابعة مثل هذه التوجهات والمساهمة في النقاش العام بما يضمن بيئة مدرسية عامة معتدلة لأبنائهم (وجود مناهج شبيهة تقتبس من الدين الاسلامي مثلا أو السماح للطلاب بمغادرة الدرس المعين من الديانات الاخرى ألخ). ومثل هذه المتابعة لا تتطلب قراءة مثل هذه الأخبار فقط بل والتواجد في اجتماعات مجالس المدارس والتصويت الولائي والمديني بما يوائم المصالح الثقافية للجاليات المسلمة. وفي قلبها الجالية السودانية بالطبع (الشمالية).
مقدمة تاريخية عن الدين والدولة الامريكية:
لكنني مهتم أكثر للخبر لأنه مدخل لفهم دستوري وتاريخي لعلاقة الدين والدولة الشائكة في الولايات المتحدة الأمريكية. فسبب إثارة الخبر لجدل واسع في الدوائر الدينية والعلمانية الأمريكية، هو أنه ينتمي لسلسلة غير قصيرة من علاقات الدين والسياسة في هذا البلد.
إذا عدت بالزمن لنهايات القرن الثامن عشر الفترة التي أجيز فيها الدستور الامريكي ستجد أنك في مجتمع بالغ التدين. فقبل فترة حرب الإستقلال ستجد في الساحل الشرقي بالقرب من بوستن في نهايات القرن السابع عشر كانت قد أستبدت الاصولية الدينية النقائية Puritanism بالطبقة القضائية الامريكية حتى أنها أطلقت رسميا حملة لأعتقال وقتل "المشعوذات" حسب تفسيرات أصولية للأنجيل. فيما عرف تاريخيا بأسم "محاكمات سالم للمشعوذات Salem Witch Trials". ثم أتت، في بدايات القرن الثامن عشر (الذي أجيز الدستور الامريكي في نهايته) وإلى منتصف القرن التاسع عشر، حملة أحياء ديني واسعة خاصة في الكنائس البروتستانتية (التي لها الأغلبية) عرفت ب"الصحوة الكبرى الأولى" حدث فيها أعادة أحياء للطوائف المسيحية البروتسانتية المعروفة مسبقا مثل البريسبيتيرية و والنقائية وغيرها. وتلتها فيما بعد صحوة كبرى ثانية حدث فيها أن تكونت جماعات وطوائف دينية جديدة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مثل شهود يهوذا والمورمون و جماعات اليوم الآخر والتي عموما ظهرت فيها حالات غرائبية و حتى جماعاتية Cults تدور تعاليمها حول عودة المسيح ونهاية العالم، مع نبوءات بمواقيت مختلفة لهذه النهاية بنيت الجماعاتية وطقوسها حولها. (يمكن أولا فهم الانتشار الواسع للإيفأجليين أو ناشري الخبر السعيد Evangelicals عبر هذه الفترة الطويلة من الصحوات الدينية المحمومة، ويمكن ملاحظة أن النظام الصحي الامريكي وهو قطاع عملاق معتمد على هذه التشكيلات مثلا في تنظيم المستشفيات لأن حجم هذه الجماعات وخاصة ماليا هو من العظمة بمكان، ويمكن كذلك ملاحظة أن الصحوات الدينية المتعلقة بنهاية العالم، وخاصة المدرسة "التدبيرية Dispensationalism"، لها علاقة مباشرة بشيوع دعم اسرائيل بين المسيحيين البروتستانت في أمريكا).
لكن الشاهد من هذه المقدمة التاريخية المختصرة لتدين الشعب الامريكي أنه في نهاية القرن الثامن عشر، ١٧٧٦ ألى حوالي ١٧٩٠ حيث أنتهت أجراءات أقرار الدستور الامريكي، في تلك الفترة كان المجتمع الامريكي شديد التدين. ورغم ذلك تمت اجازة التعديل الاول للدستور الامريكي الذي نص على ضرورة أن تقر جميع القوانين الامريكية الحق في العبادة، وحرية المعتقد والتعبير، وهي أمور وافقت عليها الطوائف الدينية الامريكية المختلفة لخشية واحدها من قمع الآخر حال وصوله للسلطة، وكذلك، في المقابل، أقر الدستور الامريكي منعا عامة للدولة للأمريكية من أقرار أي دين من الاديان عبر أدواتها الدولتية. الأمر الذي رغبت فيه بنفس القدر الطوائف الدينية الامريكية التي رأت في نفسها قدرة على نشر تعاليمها عبر حرية التعبير، العقيدة والتنظيم، وكذلك لم ترغب في رؤية الدولة تدعم خصومها العقديين بجهازها البروقراطي تحت أي ظرف من الظروف.
فالعلمانية الأمريكية الرسمية State Secularism المقرة عبر التعديل الاول في الدستور الامريكي لم تأت مضادة للدين بل بروح حامية له. الامر الذي يجب علينا كسودانيين ملاحظته بدقة شديدة، حيث سادت عندنا تاريخيا نظرية تقول بتعارض جذري بين الدين والعلمانية الرسمية، رسمت ملامح تاريخنا في خلال فترتي كتابة الدستور (التي بائت بالفشل) بين العامين ١٩٥٣ و ١٩٦٩. وكنت قد قدمت مساهمة حول ذلك في ٢٠٢٠:
على العموم بالعودة للمناهج. ستجد أن الجدل بخصوص قرار برلمان تكساس مصدره هو رفض تدخل الدولة في تعليم الناس الدين. الرفض الذي تم عبره رفض قرار لحكومتي ولاية لويزيانا مؤخرا ، وفي ١٩٨٠ ضد ولاية كنتاكي، من قبل المحاكم الدستورية والفيدرالية الامريكية، كانت فيه الولايتان قد حاولتا أقرار تعليق الوصايا العشر الانجيلية على جدران المدارس الامريكية.
المناهج وهيكل الدولة الامريكية:
في نفس سياق المقارنة بين السودان والولايات المتحدة؛ قد يتذكر القاريء، عبر قرار تكساس في الاعلى، الهرج الاهوج غير الملطف بثقافة على جانبي الصراع بين القراي وطائفته (قحت) من جهة وبين مجموعات المحافظين السودانيين من جهة اخرى حول المناهج أبان حكومة حمدوك بعد الثورة. (اقف في هذا الصراع في صف المحافظين لو بتكلف كما يتضح في هذا السرد غير القصير).
الفروقات بين الحالتين كبيرة. ونسرد هنا بعض تفاصيل علاقة المناهج والدولة الامريكية حتى تظهر هذه الفروقات.
من الواضح، من خلال نص الخبر في الاعلى نفسه، أن أمر المناهج هو هو أمر ولائي من الناحية الاجمالية في أمريكا وتدخل الحكومة الفيدرالية فيه محدود عموما. حيث لا تضع الحكومة المناهج مثلا لا للمدارس ولا للجامعات. لكن حتى على المستوى الولائي فإن عملية وضع المناهج تتم عبر كل "قطاع مدرسي" كل على حدة. ويتم ذلك عبر مجالس المدارس التي هي من ضمن هيكل المؤسسة الديمقراطية الامريكية (وواحدة من أكثرها حيوية لأهتمام الاباء عموما بمدارس ابنائهم). وستجد في حال تابعت الصراعات الثقافية حول المناهج في امريكا، وهي كثيرة، ستجد أنها تدور في معظمها في داخل اجتماعات مجالس المدارس.
كما أنه تجدر الاشارة إلى أن للدولة حتى في شقها الولائي سلطة أقل على المدارس الخاصة. حيث يذهب ١٠٪ من التلاميذ الامريكيين. وتجدر الاشارة كذلك إلى أن هيكل التعليم الامريكي يستوعب حتى الاطفال الذين يتعلمون من منازلهم وتبلغ نسبتهم ٣٪ سنويا. فمجال الهروب من قرار حكومة تكساس إلى فضاءات السوق مفتوح حتى على مستوى التعليم. وهذه العلاقة بين الدولة، وسلطانها، والسوق، وسلطانه، في الولايات المتحدة تحتاج منا خاصة كشيوعيين أو يساريين أو ماركسيين (وهذه تسميات مختلفة، جدا) تحتاج منا اعادة قراءة. فمثل الهروب من قرار حكومة تكساس (ومدارسها المجانية) للسوق (ومدارسه الخاصة) هو حركة محمودة بمقياس الحرية، وضرورية كذلك.
مدارس مسلمين .. أو سودانيين؟
وجب التذكير في هذا السياق أن مجموع المدارس الاسلامية في الولايات المتحدة قد بلغ ٣٠٠ وبلغ عدد طلابها ال ٥٠ ألفا في. سنة ٢٠٢١. فهذه المهارب من الدولة الامريكية متاحة لنا كمسلمين طالما أحسنا استعمالها. راجع مثلا موقع مؤسسة جمعية المدارس الاسلامية في امريكا. (أرجوا من أي مهتم بتجربة المدارس الاسلامية وأمكانية تطويرها كسودانيين إلى مدرسة سودانية التواصل معي عبر التعليقات أو ايميل المدونة).
المناهج كمنتوج أجتماعي قاعدي:
نقول في المحصلة أن الدرس المستفاد من هذا الخبر وتحليلنا له أن المناهج الدراسية في أمريكا هي منتوج أجتماعي قاعدي. يحفظ عبرها المجتمع الأمريكي ثقافته محليا ضد فكرة المنهج الدولتي الرسمي الكلي الشمولي. وبالتالي كان من الطبيعي أن تجد المناهج دائما في قلب الصراعات الثقافية الامريكية والتي هي حسب هيكل الدولة الامريكية صراعات ديمقراطية.
الامر الاخر هو أن كلا الفريقين عندنا، القراي وخصومه؛ لم يروا العوجة الحقيقية في المناهج السودانية: أخرجوا الدولة من باحات المدارس!
٢. النيويورك تايمز تدرس ممارسات جنود الاحتلال:
الخبر الثاني هذا الاسبوع هو وصول صحيفة النيويورك تايمز أخيرا إلى الواقع. فقد كانت الصحيفة قد بالغت مثل الاعلام الامريكي الأخر في تصديق الرواية الرسمية الاسرائيلية حول الحرب. وأحيانا ببجاحة غير صحفية خالية من أي تدقيق.
لذلك فقيام النيويورك تايمز نفسها بتحقيق حول ممارسات جنود الاحتلال في غزة هو أشارة في رأيي لوصول الحالة الفلسطينية لوضع شبيه بعلاقات الولايات المتحدة غير الرسمية مع نظام الابارتهايد في جنوب أفريقيا بعد مذبحة شاربيفيل في ١٩٦٠.
بصورة عامة فإنني لست قارئا للنيويورك تايمز أفضل عليها مصادر أخرى أكثر قاعدية في نظرتها للمجتمع الامريكي أغلبهم موجود على ال Substack. لكنني في المقابل محب لبرنامج The Daily وأراه أحد أفضل برامج البودكاست أخراجا عموما ويمكن تعلم الكثير منه. وكذلك أتابع لقاءات أزرا كلاين (فيما لا يخص الشأن الامريكي مثل هذه الحوارية الشيقة مع الباحثة السنغافورية والخبيرة بالشأن الصيني وين وين انج).
يمكن مشاهدة ملخص جيد لتقرير النيويورك تايمز عن ممارسات جنود الاحتلال في هذه الحلقة:
٣. الصحة الامريكية كحالة من "التطرف":
أتابع منذ فترة دكتور مارك هايمن. وهو عالم في مجال الصحة لكن بتعريف جذري مخالف للمؤسسة الصحية الرسمية يمكن تلخيصه ب: الصحة كحالة وجود خارج النظام الصحي. الصحة كحالة محافظة على السلامة الجسدية وليس ترميمها عبر التطبيب. أو الحصة كشيء مختلف عن الطب. (إذا تم التحرر من الكولونيالية في نظرتنا للصحة قد نبدأ من موقع دكتور هايمن بدلا عن محاولة نسخ الأنظمة الصحية الغربية). لكن عموما وبصورة غريبة قام الاعلام الامريكي الرسمي بتصوير دعاة النظر الجديد للصحة، عبر التغذية، الهروب من الكميائيات والمواد شديدة السمية الموجودة داخل المنتجات الصناعية ألخ. تم تحويل هذه المدرسة وتصويرها كمدرسة "متطرفة" تنتمي لليمين المتطرف. وتلك حالة جنونية غير غريبة على الاعلام الامريكي الساذج عموما.
تكثفت هذه الحالة مع وصول بوبي كينيدي وهو مهتم بالصحة والسياسات الصحية معروف، للسلطة رفقة دونالد ترمب. وكان كينيدي قد وعد بفرض سياسات على المنتجين الامريكيين تؤدي لخلوا الغذاء الامريكي من العديد من المواد المعروفة الضرر والممنوعة حاليا في اوروبا وكندا. (أليس من الغريب أن لا يوجد مرشح واحد خلال الثلاثين عاما الماضية أهتم بهذا الامر الاساسي؟!).
وبالطبع فلوبيهات الاغذية المعروفة اجمالا ب Big AG وعلاقات رأس المال قد عملت خلال فترة طويلة لجعل مسألة الاغذية والسميات خارج مساحة النقاش في الفضاء العام. لكن وبصورة غريبة أو مضحكة ربما، عادت المسألة عبر حملة دونالد ترمب (المحب لماكدونالدز!) عبر تحالفه المصلحي مع بوبي كينيدي وأتمنى شخصيا أن تفضي لتعديلات واسعة تضمن سلامة الاطعمة وخلوها من المسرطنات والسميات الاخرى التي باتت تنخر في جسد المجتمع الامريكي، حرفيا، عبر معدلات السمنة غير المعقولة إلى الانتشار الوبائي لامراض مثل السكري والخرف المبكر وكلها ذات علاقة بما يأكل الناس وما يشربون.
عموما سعدت بمقابلة دكتور مارك هايمن مع تاكر كارلسون. وتاكر مصنف كمتطرف أمريكي من قبل اعلام المين استريم. ولا أراه كذلك. وهو محاور ذكي عموما وسلس، وتحول بصورة رائعة لصانع محتوى ألكتروني محضور بدون كثير تذمر بعد طرده من فوكس. وهو عندي نموذج لحالة في البرجوازية الامريكية ربما لاحظنا منها سيئها فقط فألقينا بالطفل مع ماء الغسل في تعبير الخواجات أو خلطنا الحابل بالنابل في تعبيرنا. إلى الحلقة:
في الختام أرحب بالتعليقات على المقال، خاصة إذا كان هنالك أقتراحات لمواد يمكن تغطيتها فيما يخص أي أسبوع في أمريكا، إن كانت سياسية، ثقافية، فنية أو غيرها. أرحب كذلك بالتواصل عبر ايميل المدونة
mahmoud@zalam-blog.com
أخيرا أذكّر بأنه يمكن الأشتراك في قناة المدونة على واتساب عبر الرابط.
سلام يا محمود وشكرا علي المادة المفيدة. المقال عايز اعادة ترتيب في فقرات كتيرة متداخلة في بعضها.