رسالة إلى السودانيين في أمريكا: في التنظيم والأهداف والتأثير -١
نحو عمل تأسيسي أجتماعي - سياسي ، رصين
مقدمة:
جئت إلى الولايات المتحدة الأمريكية مهاجرا قبل حوالي ٨ سنوات. خلالها عشت لفترات مختلفة في كل من أكرون كولمبوس و كليفلاند في ولاية اوهايو، سانت لويس في ولاية ميزوري، فيلاديلفيا في ولاية بنسلفانيا، أوستن في ولاية تكساس، والآن في الضواحي الداخلية للوس انجلوس في ولاية كاليفورنيا. ترحالي في الولايات المتحدة كذلك شمل زيارات طويلة وقصيرة لمدن ومناطق عديدة أخرى بعضها بغرض الزيارة والترفيه وبعضها الآخر بغرض العمل.
كنت كذلك قد شاركت في اطار العمل الإجتماعي في تأسيس ما عرف ب (غرفة عمل دعم لجان الأحياء )، وعملت كمدير لمكتب الاعلام وكعضو مكتب تنفيذي منتخب بتجمع الأطباء السودانيين في أمريكا (سابا) بين العامين ٢٠٢٠ و ٢٠٢٢.
والفاريئ لهذه المدونة سيجدني مهتما بالشأن السوداني منذ فترة طويلة. كذلك للتحضير لكتابة هذه المقالات اعتمد على قراءة متأنية لكتاب Ethnic Identity Groups and U.S. Foreign Policy، وعلى هذه الورقة المهمة:
ومن هذه التجارب والقراءات ونتيجة لفترة طويلة من التأمل والتفكير في حالنا كسودانيين في المهاجر. سأسعى في هذه السلسلة من المقالات للأجابة على الأسئلة التالية:
١. ما هي التحديات الثقافية الإجتماعية التي تواجهنا كمهاجرين سودانيين؟
٢. ما هي أفضل طريقة ممكنة لتنظيم مجتمعاتنا من الأسفل للأعلى بحيث نضمن فعالية ثقافية/أجتماعية تحقق مصالحنا المحلية هنا في الولايات المتحدة، وكذلك تمنحنا فعالية سياسية في التأثير على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه السودان.
٣. ما هي التجارب الشبيهة التي يمكننا أن نقتدي بها و نتعلم منها؟ (سأحاول مناقشة تجارب مدرسة الجالية الأرمنية في لوس انجلوس، اللوبي الأسرائيلي، اللوبي الكوبي، اللوبي الهندي - وسأحاول كذلك مناقشة بعض تجارب العمل الاقتصادي للمهاجرين السودانيين وغير السودانيين التي قد تكون مفيدة).
وكمحصلة نهائية لهذه المقالات، سأقوم أولا بترجمتها للانجليزية تعميما للفكرة التي اراها بالعموم مناسبة كذلك للأفارقة (المهاجرين من القارة وليس السود الأمريكيين، كمجموعة معينة). ثم سأسعى للعمل وسط من يرى في هذه الافكار مجالا ممكنا للعمل نحو تطبيقها على أرض الواقع في شكل مؤسسة (أو مؤسسات) اجتماعية تحقق لي ولغيري من السودانيين المهاجرين في امريكا بعض مصالحنا.
أولا: ما هي التحديات الثقافية الإجتماعية التي تواجهنا كمهاجرين سودانيين؟
يجب فهم هجرتنا كسودانيين في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، بأنها هجرة تأتي في أطار تضعضع ثقافي و سياسي في وطننا الأم. فأقرأ هذا المقال مثلا. في المتاعب الثقافية لأبناء الجيل الأول من السودانيين الأمريكيين (الجيل الأول نعني به السودانيون الذين ولدوا في أمريكا). كذلك أقرأ هنا . حول وضعية الثقافة السياسية عندنا في بداية الألفية. ويمكن ملاحظة الوضع الثقافي والسياسي السيء الذي وصل له حالنا كسودانيين في حقيقة أنه ليس لنا بصورة عامة، حتى في السودان، وخاصة في أمريكا، من مؤسسات الذاكرة نصيب كثير. فستجد أن تاريخنا ومكامن حفظ ثقافتنا هي حالات فردية. تختفي بموت صاحبها. وأعني بذلك مكامن حفظ الثقافة الدينية (الصوفية) والمناطقية والقبلية ألخ مما يكون بصورة جماعية ذاكرة للأمة تحفظ عبرها الجيل بعد الجيل. وخاصة في الغربة.
وعلى هذه الحال فسيكون التحدي الثقافي الاجتماعي الاول هو أختفاء الهوية السودانية بعد جيل او جيلين من الهجرة. واعنى بالاختفاء ليس تحول ابناءنا لسودانيين امريكيين وهذا مشروع بل هو حق للانسان الناتج في هذه الارض ينتمي جزئيا لها. بل تحولهم لأمريكيين بشيء من بقايا هوية سودانية. وبالتأكيد فإن هذا التهديد هو مما يشعر به كل اب و ام سودانية يمكن القول.
وتقوم مجتمعاتنا بمواجهته جماعيا في شكل صلات التراحم والتنظيم في شكل جاليات وهو مما شاهدته وسمعت عنه كثيرا في خلال تنقلي في امريكا وعملي وسط منظمات السودانيين. إلا أن التحدي - الذي هو هيكليا ثقيل ويأتي في شرط ثقافي، اجتماعي، سياسي، وصل حد الازمة الجذرية بحدوث حرب ابريل ٢٠٢٣- قد لا يكون مما يمكن حله في شكل العلاقات التراحمية التلقائية بين أبناء الجاليات فقط. بل هو بحاجة، كذلك، لأنواع من المأسسة تحول هذه العلاقات لنوع من العمل الاجتماعي الراسخ. وسأتطرق لاحقا، على سبيل المثال، لتجربة مدرسة الأرمن في لوس انجلوس. وشعب الارمن هو بتعداد ١١ مليون حول العالم أي أن مثل هذه التجارب هو ليس مما يقاس بالعدد بل بالارادة وقدرة المجتمع على العمل الجماعي لتحقيق مصالحه الهوياتية الثقافية.
كذلك تمثل الولايات المتحدة بنظامها الاقتصادي الاجتماعي الليبرالي تحديا آخرا لنا كسودانيين. فيرتبط ازدهار المجتمعات الاثنية في امريكا بقدرة أبناءها على الازدهار الاقتصادي فرديا و جماعيا. وبعكس الفكرة السائدة عن الفردانية الامريكية، فإنه في الحقيقة ومنذ تأسيس المجتمع الامريكي على الأخلاق والمجتمعات الكنسية البروتستانتية كما شرح ماكس فيبر، فإن للتطور الاقتصادي للفرد في امريكا علاقة مباشرة بشكل التنظيم الاقتصادي للفئات الاجتماعية التي ينتمي لها. ولا يقتصر هذا الامر على تكون انمظة مساندة اقتصادية من قبل الحاضنة الاجتماعية فقط (على سبيل المثال انتشار ثقافة تدوير المال السوداني داخل المجتمع السوداني) بل كذلك على تبادل الخبرات وتوفير مجال تنظيمي وثقافة شراكات داخلية بين ابناء المجتمع السوداني.
الازدهار الاقتصادي لأي مجتمع. حال تبع بثقافة جماعية صحية. يتحول لازدهار للمجتمع نفسه وبالتالي حفظ لثقافة هذا المجتمع عبر مأسستها. وعبر تطويرها. فعلى سبيل المثال ليتقام مكتبة أو متحف أو مركز دراسات للغات والتاريخ النوبي (أو الفوري، أو البجاوي أو حتى للتاريخ الحديث للخرطوم أو موسيقى الحقيبة ألخ) فسيكون على القائمين على مثل هذا المشروع توفير السند المالي عبر جمع التبرعات من المجتمع السوداني. ونفس الامر ينطبق على مشاريع أخرى مثل المدرسة السودانية او المسجد السوداني ألخ. وبالتالي فإن عملية التنظيم الاجتماعي لابد أن تضع في أعتبارها هذا التحدي و تستثمر كذلك في رغبة الافراد في تحقيق مصلحتهم الخاصة. هنالك بالطبع تحدي تحول أجيال الشباب السودانيين للعمل بفردانية متطرفة وذلك نوع من النتيجة الممكن لهجرة غير ملطفة بثقافة جامعة. إلا أن هذا النوع من النشاط سيكون ذي عائد اقتصادي وروحي محدود. ونحن نرى عظم المنافسة وصعوبات التطور المادي للأفراد في هذا البلد.
على صعيد أخر. تقام دوريا وبصورة جميلة وأصبحت تقليدا مستمرا العديد من الفعاليات السودانية الثقافية الأجتماعية. مثل الدورة الرياضية السنوية، مختلف احتفالات الجاليات بالعيد الوطني والمحافل الرمضانية والعيدين إلخ. لكن هذه الانشطة مواجهة على المدى الطويل بتحديين:
١. أنها معتمدة بصورة كبيرة على نشاط الافراد القادرين على ادارة هذه الانشطة في داخل علاقاتهم الاجتماعية: وهذا الامر مهدد بمرور الزمن باختلاف ثقافة السوداني الامريكي اللاحق. للسوداني المهاجر. فقد لا تكون للسوداني الامريكي نفس القدرة على، او الرغبة في شكل الفعالية الحالي. إلا إذا حمت هذه الثقافة نفسها باليات مؤسسية أصبحت قادرة على العمل وتغيير شكلها حتى وإن اختلفت الشخوص القائمة على الفعالية.
٢. عدم قدرة هذا الشكل الذي فيه الكثير من العفوية على تحويل الرأسمال الثقافي الاجتماعي الكبير لرأسمال سياسي (تأثير على السياسة الخارجية الامريكية)، أو لرأسمال أقتصادي (توفير مواعين نمو اقتصادي داخل الجاليات) أو رأسمال ثقافي مؤسسي (انشاء مؤسسات ثقافية مدارس مساجد ألخ) لان هذه العمليات اللاحقة تتطلب مجهودا وطول نفس لا يقدر عليه الافراد بل هو مما تقدر عليه المؤسسات.
نواجه كذلك كسودانيين مهاجرين في امريكا (أو سودانيين أمريكيين)، تحديا أساسيا تجاه وطننا الام. وذلك من عدة جوانب:
١. الوطن الام كمرجع وجداني وواقعي: المساهمة مع بقية السودانيين في الحفاظ على وطننا الامم ماديا (من التهديدات الحالية، السياسية و الأمنية الكثيفة، في ظل الحرب وقبلها و بعدها). أو المساهمة بصورة فاعلة في حفظ ثقافته وتاريخه وبالتالي وبالمحصلة النهائية هويتنا أو هوياتنا كسودانيين. هو مصلحة أساسية وبالغة الأهمية لنا كسودانيين.
٢. المساهمة في عملية التنمية الاقتصادية، إن كان كأفراد، أو جماعيا في شكل منظمات تنمية واصلاح مختلفة، أو عبر المساهمة في تحسين شروط التجارة الامريكية السودانية عبر التأثير على سياسات الولايات المتحدة، أو عبر المساهمة بالمعارف (عبر مؤتمرات اقتصادية اكاديمية و تخصصية ألخ). كل تلك تعد مهام ومتطلبات يمكن للمجتمع السوداني في امريكا ان يديرها.
٣. التأثير على السياسة الخارجية الأمريكية من الناحية السياسية: على سبيل المثال عندما طرحت مسألة رفع السودان من قائمة الارهاب. قامت بعض المجموعات السودانية بمحاولة لعب دور في التأثير على السياسة الخارجية الامريكية إلا انه لم يكن فعالا. عملية التأثير المنهجي على السياسة الخارجية الامريكية تجاه السودان، تحفل بممكنات كبيرة أذا ما رأينا تجارب بعض الاثنيات الاخرى.
كل هذه التحديات و الممكنات ستكون بحاجة لنوع من التنظيم. و الثقافة الجماعية. ترتقي لمستوى المرحلة.
ونأتي في الحلقات القادمة بتفصيل في مقترحات الهياكل التنظيمية الممكنة في هذا الاطار.