جانب أخر أردت أن أشير أليه بالنسبة لصربيا: هنا يا صديقي/عدوي، صحفي صربي يدعى أليكساندر تيجانيك، كتب مقالا رائعا درس فيه جاذبية ميلوسوفيتش للشعب الصربي.
في واقع الأمر - أنا لم أصدق أنه شرح فكرتي بهذه الدقة - يقول تيجانيك بأن الغرب الذي يرى ميلوسوفيتش كطاغية، لا يستطيع أن يرى الجانب التحرري المنحرف لميلوسوفيتش. ما فعله ميلوسوفيتش هو أفتتاحه لما أسماه تيجانيك نفسه "الكرنفال الدائم": لا شيء يعمل على وجهه الصحيح في صربيا! بإمكان الكل أن يسرقْ! بإمكان الكل أن يغش!
بإمكانك أن تذهب إلى التلفاز و تبصق على قادة الغرب! بإمكانك أن تقتل! بإمكانك أن تقوم بالتهريب! مرة أخرى نحن بحضرة "باختين". كامل صربيا في حالة كرنفال الآن. هذه هي النقطة بالغة الأهمية التي لا يفهمها البعض هنا؛ إنه ليس نوعا من "الأرهاب الأسود"، بل هو ضرب من الحرية الانفجارية الكاذبة.
الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجاك في مقابلة أكاديمية عام ٢٠٠١ - ترجمتي
الخلفية التاريخية:
بوفاة المرحوم الصادق المهدي في نوفمبر ٢٠٢٠، أبان نجاح ثورة ديمسبر في اسقاط الطاغية عمر البشير (عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، كان قد أسدل الستار بصورة تكاد تكون كاملة على قيادات حقبة ما بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤. فإذا أستثنينا الحزب الاتحادي الديمقراطي والأحزاب المحلقة حوله بإعتباره حزبا غير فاعل عمليا منذ حوالي ١٩٥٣ في خلق المشهد السياسي السوداني (لنا عودة لاحقا للتساؤل عن ما حل بالطرق الصوفية وفعاليتها الإجتماعية/السياسية)، فإن وفاة الصادق المهدي ختمت حلقة سبقه إلى الفناء فيها كل من قادة الحزب الشيوعي (عبد الخالق محجوب أولا داخل عنف سياسي، ثم محمد أبراهيم نقد في ٢٠١٢)، وقائد الحركة الإسلامية حسن الترابي في ٢٠١٦ و قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق في ٢٠٠٥.
وأتت هذه الخواتم لحيوات القيادات السياسية لمشاريع السودان الوطنية، في ظل تدهور كبير في مقدرات أحزابها الأيديولوجية (حتى وصف البروفيسور عبد الله علي إبراهيم حالها ب"صدأ الفكر السياسي")، ومن الناحية التنظيمية السياسية. فمن ناحية حزب الأمة الذي هو وريث آخر ثقافة سياسية حكمت السودان قبل المستعمر، فسنوات طويلة من الفشل في الوصول إلى أو تثبيت النظام الديمقراطي كانت قد أفقدت الحزب أهم ميزاته وهي غزارة الأصوات وكثافة عمقه الأجتماعي. حتى أنتهى السيد الصادق المهدي وبصورة تراجيدية للقمة سائغة في ألسنة برجوازية المدن الصغيرة التي سيطرت على المساحات الأعلامية فيما بقي أتباعه في الريف بلا قدرة على الدفاع الرمزي عنه. أو ربما تآكلت حتى غزارته الإنتخابية تحت وقع ضربات التحديث، الهجرة، و الأسلمة (أي التحول لحركات الأسلام السياسي الحداثية). من جانب آخر تلت وفاة جون قرن، وتحقق أنفصال الجنوب (الذي يمكن القول بأنه جرى على عكس الإرادة المعروفة للقائد في الوحدة، وهو نوع من الفشل الايدلوجي)، تلت تلك الأحداث حالة من الأضطراب في الدولة الجديدة والإقتتال الداخلي تشير إلى أن القوة العسكرية، والرمزية، التي بنى عليها جون قرنق انتصاره في نيفاشا، كانت مما يمكن تسميته بالنمر من ورق. وظهر ضعف الورق حال إكتمال التكتيك حيث تناثرت الأستراتيجية في الدولة الجديدة هباءا منثورا. ترك حسن الترابي في المقابل الحركة الإسلامية منقسمة بلا إحسان أو طاقة على التغيير. معتمدة ربما عليه أكثر مما صح بحق شيخ كبر سنه. وأسيرة بصورة كبيرة وقاتلة لنظام سلطوي أجرامي ورئيس عديم موهبة فاسد شخصيا وسياسيا بصورة مهددة للأمن القومي للأمة كما هو واضح اليوم (كما يجب ملاحظة أن كل انجازات الحركة الاسلامية، التي هي رأس رمح المحافظين السودانيين أتت في اتجاه تحديثي عشوائي إن كان في الرأسمالية أو التعليم أو تحويل انماط التدين السودانية التقليدية لانماط حديثة أو أضعاف موقع القبيلة والمساهمة في تفكيكها، وتلك قد تكون انجازات من منظور ما، لكن ليس من المنظور المحافظ بالتأكيد). أما بالنسبة للحزب الشيوعي والحركة اليسارية الجذرية السودانية عموما، فربما أمكن القول أنها لم تفق بعد أحداث أنقلاب هاشم العطى قط. وحدثت ثورة ديسمبر في إطار نخبة مدينية تحركها ايديولوجيا يسارية مبعثرة (التنظيم المدني، النقابات، الحقوق العامة، قضايا المرأة، معارضة الدولة الدينية إلخ) لكن بتغبيش شديد مقعد عن الحركة الرصينة.
في هذا الأطار، إذن، جاء غياب القيادات ليس في إطار أحلال و أبدال بين جيلين. يرث فيه جيل مقدرات جيل أخر إن كان نظريا، تنظيميا، اجتماعيا أو سياسيا. بل في إطار اضمحلال كامل للمشروع الوطني، ووصول الحالة السياسية لنوع من الانفلات و التهريج العام كان يقوده رئيس الدولة ويتبعه الكل.
ومن منظور أخر، أجتماعي تاريخي. ترافقت حالة التشوه السياسي. وارتقاء الرويبضة بمختلف أنواعهم لتولي الشأن العام إن كان في الحكومة أو المعارضة. وبالتالي توقف العمل على (المشروع الوطني) وتحول السياسة لشأن يومي، نفسي، شخصي، كوميدي، يمارس بنوع من اللا مبالاة وأسبقية الأغراض الشخصية و المشاعر على الأهداف و المقاصد الكلية و العقل. ترافقت هذه الحالة مع ظواهر إجتماعية تاريخية متعددة شكلت الضرورة التأسيسية لممارسة السياسة عبر الكرنفالية:
١. ثورة التعليم العالي:
لفهم العقل المحرك لأي مجتمع تاريخيا. على الدارس أن يتطرق أولا (وقبل فهم علاقات الإنتاج بصورة فجة تبسيطية) لدراسة ما أسماه الفيلسوف الماركسي الفرنسي لويس ألتوسير ب "جهاز الدولة الأيديولوجي".
حق اذا على الواحد أن يصاب بالحيرة من اصرار النخب السودانية الهوسي على عكس الأمر برمته. ففي داخل الذهن النخبوي تكمن "المشكلة" في غياب التعليم. ما يسمى عندهم ب "الجهل" وهو ثالث ثلاثة (الجهل والفقر والمرض) تسعى النخبة لتخليص السودانيين من شرهم. وبالتأكيد فإن الجهل بالمطلق شر. إلا أن النخبة السودانية عندما تتكلم عن التعليم فهي تتكلم بصورة حصرية عن تعليم معين هو مؤسسة التعليم الإستعمارية التي أنشئت في بخت الرضا. ويصعب فهم المسار الانحداري للأمة في داخل هذا التفسير ف "ثورة التعليم العالي" كانت أدخلت عددا كبيرا من السودانيين داخل بوتقة التعليم الحديث. بل أصبحت فكرة التعليم وأفضليته مما يشكل أحد أهم قواعد التربية السودانية للأطفال. رغم ذلك، استمرت الامة في السير من السيء إلى الأسوأ. بدون أن تتم مساءلة الفرضية الاساسية.
حتى أن الحركة الإسلامية، والتي هي لسان حال الذراع المحافظ أو التقليدي السوداني، قد إعتبرت أن من أبرز منتجات فترة حكمها هو ما أسموه ب "ثورة التعليم العالي".
على الجانب الأخر، وكالعادة، فإن الدارس الوحيد الذي وقف على خطورة التركة الأستعمارية المتمثلة في التعليم الحديث، كان بروفيسبور عبد الله علي ابراهيم. كصوت أقلية قصوى.
يحق التساؤل عن وضع الجيل الذي تلقى تعليمه كله (بالمعنى الواسع للكلمة) داخل أروقة مؤسسات التعليم الرسمي السودانية. وأنماط عمل، هجرة، إنتاج، تطلعات، أمال، أحلام، بالمحصلة النهائية أيديولوجيا، هذا الجيل. وسنجد هذا التساؤل مشروعا طالما نظرنا لما تم فقده عبر أنظمة التعليم الإستعماري أولا:
أ. إنسان غير تاريخي: من الواضح. خاصة في حالة النقد العشوائي لدولة ١٩٥٦ أثناء هذه الحرب. أن المعارف العامة، للفاعلين في السياسة السودانية، لا تتجاوز حدود العام ١٩٥٦، بغير أحسان لمعرفة حتى هذ التاريخ القصير. وعندما أقول المعرفة العامة، فما أعنيه بالمعارف لا يمكن فهمه إلا عبر التفريق بين معنيين لكلمة "ثقافة":
يمكن للثقافة أن تعني عملية تجميع المعلومات و دراستها إن كان أكاديميا، أو صحفيا، أو عبر مؤسسات الفنون و الادب وغيرها. وتلك الثقافة التي تهم فاعلها الأساسي المعروف عندنا تخصيصا ب "المثقف". وترجمتها في الانجلزية Intellectualism. وهي مما يتم التعامل معه عادة في أطر الأكاديميا العليا.
ويمكن للثقافة كذلك أن تعني أنواعا من المعارف العامة، المزاج العام، وقوائم من المسلمات والأمور المتعارف عليها التي يلطف بها الإنسان من توحشه ويكون عبرها، بالتالي، قادرا على التعامل مع غيره من البشر. وبهذا المعنى فإن هذه "الثقافة" هي ضرورة للوجود الإجتماعي وتدخل في أصل تعريف الإنسان لنفسه، وتعرف المجتمع "على" نفسه. وهذه ترجمتها في الإنجليزية Culture.
بهذا التعريف يمكن القول بوضوح أن أهم ما تم فقده عبر التعليم الاستعماري (والعملية الإستعمارية العنيفة ككل) هو التاريخ الذاتي للسودانيين كجزء من ثقافتهم العامة Culture. فبينما سيكون شخص كتوماس جيفيرسون حاضرا في الوعي العام الأمريكي كأحد صانعي عام ١٧٧٦ وهو عام الأستقلال. فإن المخيلة العامة للمتعلم السوداني لا تشمل إلا الدولة الاستعمارية ويعتبر كل ما خلفها جزءا من "التاريخ القديم" بما في ذلك الدولة المهدية. (وعبر الأكاديميا لم يتم منهجيا نسيان الدولة المهدية فحسب بل وكذلك تنفيذ مشروع الانجليز حولها و هو الهدم الاخلاقي).
هذه اللا-تاريخية، هي وفي نفس الوقت، حالة مضادة للمستقبل: لكي تفكر حول المستقبل باعتباره أمرا متجاوزا للحظة الأنية، سيكون الواحد منا في حاجة لوجدان يستشعر عمق التاريخ. كنت مؤخرا قد اقترحت على بعض الزملاء العمل على انشاء مؤسسة معينة يستغرق تكوينها عاما أو عامين. أحدى الردود المستعجلة جاءت بهذا المنطق: "لن يكون هنالك سودان بعد عامين". مثل هذا العقل الشفوق، والمشلول بالتالي، هو عقل فاقد للادراك التاريخي وبالتالي فهو وعلى الدوام عقل متطرف في الآنية.
ب. إنتشار الفهم المنحرف للأصل السوداني:
في هذا الاطار من فقدان الذاكرة. سيكون على الفاعل أو الفرد السوداني أن يخوض نحو مستقبل لا يعرف من أين أتى أليه. ويمكن أعتبار أنه ليس هنالك ضرورة للأصل طالما نحن نعلم ألى أين نحن ذاهبون (والاجابة إلى الغرب طبعا). وأما في الإتجاه الأخر فإن غياب أي تصور وجداني لسودان ما قبل الاستعمار فتح الباب على مصرعيه ليه فقط لنسيان العلائق قبل السنارية الشرق أفريقية للسودانيين، وتحولت بالتالي اثيوبيا لدولة أجنبية جذريا، بل وكذلك لنسيان أنماط الحياة والتدين والثورة السنارية. وبالتالي قامت المحافظة السودانية (القادمة من المؤسسة الحديثة) على تاريخ المسلمين في مصر أو الدولة العثمانية تحاول الحفاظ عليه و ليس على تاريخ المسلمين السودانيين.
وفي هذا السياق ربما، إنتشرت فكرة "وحدة وادي النيل" كفكرة ستكون وعلى الدوام مقعدة استراتيجيا. لكن ذلك موضوع أخر طويل.
ج. تكوين الوجدان "الفرد":
من الناحية الادارية ان صح التعبير. فإن ثورة التعليم العالي تنظر وبصورة جذرية للإنسان كفرد. مفهوم النجاح والفشل. الذي هو المفهوم الرئيس (وليس تحصيل المعارف) في داخل هذه المؤسسات. يجهز الإنسان لعملية التنافس الرأسمالي لكن في داخل الشكل الاجتماعي للوجود. وبالتالي فليس من الغريب أن أهم نمط أنتاج لمخرجات هذه المؤسسات كان عملية الهجرة كعملية خلاص فردي. فتلك المؤسسات لم توجد لتخريج مزارعين أو أعضاء في مؤسسة تعاونية (وهي أنماط الوجود الجماعي الوحيدة الممكنة في مجتمع يم يصل فيه التراكم الرأسمالي بعد لمرحلة أمكانية الاستثمار الفردي)، أو حتى لتخريج مواطنين بالمعنى الديمقراطي القومي، بل لتخريج موظفين.
من هنا يمكن فهم شلل هذه المخرجات التعليمية حتى بعد هجرتها، في تكوين مؤسسات جماعية.
في الخلوة. أو في ظل الطريقة الصوفية. أو في أنماط حياة الرحل. و المزارعين. وأنماط التراحم السودانية التقليدية، فإنه هنالك تدريب مستمر على الجماعية. والقدرة على فهم الإنسان لنفسه كجزء من كل. و عندما رأت النخب المدينية شديدة التأثر بالتعليم العالي قدرة الهدندوة مثلا على التنظيم لم تستطع، عبر غشاء الايديولوجيا الفردانية، إلا أن ترى فيهم مجموعات من "المغيبين". (وعلى صعيد أخر فتعمل كل الكتل في الاقاليم على نشر التعليم الاستعماري بين ابنائها بحماس شديد).
٢. شلل الدولة في الريف:
من جانب أخر فإن حالة التفكك في المشروع الوطني في المركز. إن كان في شكل تصدع الدولة المركزية. أو في شكل صدأ المشاريع المعارضة. قد ترافق كذلك مع حالة من الافقار للريف السوداني وإنتشار عنف جهوي مناطقي فيه. تمثل أولا في ظاهرة الحركات المسلحة التي هي مجموعات من المقاتلين السودانيين-الأفارقة في غرب السودان ضعيفة التنظيم موبوءة بنفس داء غياب الرؤية العام وضعف العمل الرصين، كان أنتهى بها الحال مؤخرا للعمل الارتزاقي في تشاد وليبيا في ظاهرة تهتك كامل (في ما عدى حركة عبد العزيز الحلو). ومعها ظهرت قوات الدعم السريع والتي تمثل نفس الحالة فقط في جهة القبائل العربية من الرحل.
٣. السوشيال ميديا:
تحول العملية الثقافية/الاعلامية بصورة شبه كاملة لعملية تابعة لاليات السوشيال ميديا، هو تحول تاريخي اجتماعي مهم، ربما لم ندركه بشكل كامل بعد. فآليات النشر، المكتوب أو المصور، تحولت في فترة قصيرة من عملية تقوم بها مؤسسات أو أفراد متخصصون لعملية عامة مبالغ في ديمقراطيتها. هذا من جهة. ومن جهة أخرى متحكم فيها من قبل نخبة صغيرة جدا فوق قومية في مراكز بعيدة في سانفراسيسكو الأمريكية. ديمقراطية فائقة عشوائية من النوع الذي حذر منه أفلاطون من جهة. ومن جهة أخرى تحكم ديستوبي كامل.
هذه الألة التقنية (يجب عموما إدراك مشكلتنا في جذرها كمشكلة تقنية أقرأ او هنا). المتطورة بصورة مستمرة بسرعة أكبر بكثير من قدرة العقل الانساني على التأقلم. أصبحت وبصورة كاملة هي الفضاء الاساسي للعمل العام. الأمر الذي انهك قدرة الفاعلين (على قلتها) على العمل في المجال الواقعي، وقضى كذلك على إمكانية النقاش الرصين.
في داخل هذه الفضاءات الجنونية. وفي داخلها فقط. يمكن للكرنفالية أن تصل إلى حدودها النهائية. وهي الاحتفال العملي اليومي بالموت، والنسيان السريع لذلك. ناهيك عن قتل امكانية الحركة الجماعية إن كان داخل الحرب، على الأرض عسكريا في شكل تيارات وطنية عسكرية لها أجندتها، وكذلك الغاء القدرة على الحركة المدنية الفاعلة.
و يمكن ملاحظة الشكل الكوميدي لتسمية اطراف الصراع #البلابسة (بالهاشتاق) وهي تطوير كوميدي لكلمة كوميدية أخرى ظهرت اثناء ثورة ديسمبر (#بل بس) و (#الحل في البل) وكانت للمفارقة تستعمل وقتها ضد الجيش وليس معه. هذه الطبقات من التلاعب. والتهريج. لا يمكن أن تحدث بغير شرط السوشيال ميديا كفضاء جذري جديد لم يفهمه الفاعل السياسي السوداني بعد. (ولا الآباء و الأمهات عموما، وبالتالي فنحن أمام تهديد وجودي عام لجيل كامل قادم).
هذه الخلفية فتحت المجال أولا للحالة الكرنفالية في الثورة، ثم وبصورة يمكن توقعها، في الحرب.
الكرنفالية:
كنت قد راقبت النمط الكرنفالي للعمل العام منذ فترة طويلة. فإبان ثورة ديمسبر ٢٠١٨، ومع تطور المد الجماهيري وتصاعد نمط الإحتجاج. ظهر أكثر من نمط للإجابة على اسئلة الواقع الحقيقية عبر العمل الهتافي الفرائحي. وبالتاكيد فلا ينزعج الواحد لفرح الناس. إلا أنه مع تطور الاحداث أصبح جليا بالنسبة لي أن هنالك تناقض أو شرخ بين جانبين: جانب الواقع المحفوف بالتهديد، الموت، وإمكانية الأنفجار. وجانب الأحتفال الذي يسعى لملء فراغ غياب الرؤية بنوع أو آخر من الترويح عن النفس.
ويمكن للمرأ أن يدرك بسرعة أن مكان المؤتمرات العامة، الندوات الجماهيرية، اللقاءات التفاكرية، مقالات الرأي، اجتماعات تأسيس الاجسام الإجتماعية، التظاهرات التي تشير لأفكار معينة وتطلعات واضحة، ألخ. مكان كل ذلك حلت الكرنفالية كحالة تسمح بالعمل الجماعي لكن في نفس الوقت لإلغاء العمل الجماعي. هذا التناقض ظهر في حقيقة أن العمل الذي قامت به الجماهير، قد "ركب" عليه عناصر من خارجه (من خارجة بصورة فجة من فرنسا و بقية المهاجر و من خارجه وجدانيا). كيف تقوم الجماهير بفعل جماعي لمدة ستة شهور أو أكثر، ثم تدعي بعد نهاية الفعل أنه قد تم "الركوب" عليهم؟ الأجابة هي لأن الكرنفالية هي فعل جماعي يقوم بإلغاء الفعل الجماعي.
وتأتي عملية الإلغاء في ألغاء الرصانة. التي هي أخذ الأمر بحقه. مثل نص الآية "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". أو إن لم ترد التأصيل الديني لفكرة الرصانة، مثل معنى كلمة "قوة" هنا فيمكنك أن تنظر في تاريخ الثورات. التي هي عمل أجتماعي شاق. وخطر تأخذه الامم بكامل الجدية ويتم استثمار طاقات الاحتجاج فيه كروافع للبناء. فعلى سبيل المثال، ففي النموذج الصيني للثورة، كما هو موضح في كتاب ماو "في الممارسة والتناقض" فإنك ستجد أن اهم مخرجات العملية الثورية الصينية كان تحويل كتل الشباب المتظاهر (أو المقاتل) لكتل عمل بحثي تتجه كل مجموعة منها لفهم مسألة معينة قريبة منهم و تحليلها وايجاد حل لها. ثم يمكن للمشاهد لنمط التظاهر الصيني تحويل التظاهرة نفسها لرسالة ما (رفع الكتاب الأحمر و التلويح به مثلا) فهي ليست مكان للاحتفال بل لبداية مشروع سياسي.
إلا أن النخبة السودانية. التي كانت تستعد للركوب فوق ظهر ثورة ديسمبر رأت في العمل الكرنفالي أفضل رافعة لها. فهي على العموم و كما وضحت الأيام بلا تصور واضح لتطرحه. أو وجدان لتبنيه. و بالتالي فأفضل جماهير لها هي الجماهير التي تتعامل مع المساحة العامة كمساحة للاحتفال الدائم.
ظهرت الكرنفالية العسكرية السودانية كذلك بعد ثورة ديسمبر بصورة اوضح. فقد كانت من قبل ملجومة بايديولوجيات التحرر (السودان الجديد، التظلم العرقي) من جهة، و من الجهة الأخرى بأدبيات العمل الاسلامي الجهادي. يمكن في هذا السياق ربما دراسة ظاهرة "عرس الشهيد" كشكل أولي للخداع عبر الكرنفال. ولو أنها لم تصل لحالة التهتك الكامل الحالية.
لكن بعد ثورة ديسمبر. أصبح المشهد العسكري السوداني في حالة من الأنهيار الرمزي. رفقة بقية عناصر الثقافة والمجتمع السوداني. فتجد مثلا في فيديوهات سيطرة الجنود السودانيين على الفشقة، وطريقة أحتفالهم في ٢٠٢١ و ٢٠٢٢، شكل جديد من الكرنفالية العسكرية اللعوب.
شاهد هنا:
و هنا:
كانت هذه الفيديوهات لتكون مثيرة للدهشة (وقد كانت في وقتها بالنسبة لي) إلا أن المتابع للحرب الدائرة حاليا سيرى في هذه الفيديوهات عملا رصينا مقارنة بشكل التهريج العسكري الحالي.
وهذا التهريج أمام الموت. وليس موت الانسان فحسب بل موت المجتمع بأكمله. هو كرنفالية سابقة للجينوسايد من الناحية النفسية. فالجندي الذي يحتفل اثناء الحرب هو غير مقدر أولا لقيمة حياته هي نفسها. وذلك أمر يسهل مع أطلاق القتل بغير حساب اذ بألغاء الفرد لقيمة حياته يلغي من بعد قيمة الحياة عموما. وهو شرط القتل على الهوية.
ثم من الناحية الروحية فتلك حالة متطرفة في التراجيديا. فهؤلاء الجنود. وخاصة من قاتل منهم في صف المشروع الوطني، مشروع السيادة الوطنية (وليس الدولة أو الجيش فتلك مجرد مؤسسات قد تبقى وقد تذهب، بينما مشروعنا الوطني هو أيمان صادق ومحبة للشعب)، فهو كان من المفترض أن يكون مجهزا بطبقات من الرصانة في الحرب في مجتمع سوداني مسلم متصوف. وحديث كذلك خاض الثورات وحتى العلمانية منها على مبدأ واضح في حب الشعب وطلب الخير له.
والحرب في هذا المجال هي أعلى سنام العمل العام. يستغرب الواحد أن يشاهد فيه التهريج والكرنفالية المسكرة.
اللهم إلا أنها النهاية الكاملة لمئة عام أو أكثر من العار بدأت في ١٨٩٨م نشأت فيها في السودان جمهورية كذوب على مباديء في الدولة والتعليم والسياسة والثقافة. هي اوهن من بيت العنكبوت كما هو واضح. وهي من شدة لؤمها تتهاوى فوق رؤوسنا بينما تتردد في جنباتها إحتفالات قتل صاخبة وبلا خجل أو حتى شعور بالحزن.
والحمد لله على كل حال.
على صعيد أخر قد يقول قائل كما كان يقال ايام كرنفاليات ميدان الاعتصام: وما الضرر الممكن لهذا النمط الترويحي اللاحتفالي؟
وللاجابة على هذا السؤال وجبت العودة للاقتباس في الاعلى من سلافوي جيجاك:
العملية الكرنفالية. كحالة إجتماع انساني يسعى لتعطيل شرط العقل والتفكير، هي ليست بالضرورة عملية سلمية. فباختين وهو أحد أهم منظري الكرنفالية كظاهرة تاريخية يقول بأنه في الكرنفال "ليس هنالك من هو خارجه، هو حالة تحطيم، يرفع فيها الملوك و يحط من أخرين، تتغير فيها الرتب، و المواقع، يخلق فيها اللا معقول من المعقول و المعقول من اللا معقول". و بجانب نموذج كرنفالية الجنود، التي هي شرط لأعمال الأغتصاب و القتل الواسعة المنهجية، و القتل الجماعي. محالة كرنفالية عنيفة. فإن الكرنفالية حتى خارج إطار الحرب يمكن أن تظهر في شكل عنيف رغم أنه هزلي لعوب: تذكر مثلا الطريقة التي تحولت بيها الكرنفالية في ثورة ديسمبر لحالة عنف رمزي ضد أي مخالف لمسار ضيق معين، الهزء والنعت بالأوصاف و السخرية، امتزجت فورا بالاقصاء السياسي الصارم. كذلك يفسر كثيرون المحاكمات المسرحية الاستالينية لخصومه ابان فترة الحكم السوفيتي بالحالة الكرنفالية: الرفيق الذي يجبر على الاعتراف امام الجمهور بتحول لموضوع للسخرية و الضحك الجماعي في شكل احتفالي، ولا تمنع هذه الروح الخفيفة للعملية من أن تنتهي بقتل موضوعها.
يمكن القول بأن الكرنفالية كحالة جذرية في الاجتماع خارج شرط العقل (والأخلاق بالتالي) هي بالضرورة في نهاياتها ظاهرة عنيفة. ونحن نشاهدها اليوم في تجليها الأخير.