قررت منذ فترة أن أحاول تغطية نشاطات وتجمعات السودانيين في الولايات المتحدة قدر الإمكان. فنحن كأمة في لحظة فارقة ومفصلية من اللحظات التي سماها الشاعر السوداني السر آناي كِلوِيلجانقْ"آلام المخاض". وبت أرى، كمثقف وكمهاجر أنا نفسي، أن أحدى صفحات عملية المخاض ستكتب، لحسن الحظ أو لسوئه، في المهاجر. ووجب ليس فقط أحسان كتابتها في تفاصيلها بل وكذلك ضبطها على ايقاع الوطن تحت رؤيا سودانية رصينة وأحياءها بالفكر. حتى نتجنب قدر المستطاع آلام المخاض العشوائي.
في هذا السياق وقع اعلان مجموعة "ندوات مينيسوتا" على الواتساب عندي موقعا حسنا وأنا في زيارة لأخي في نفس الولاية. قدم الندوة الباشمهندس خالد الحسن، حول "تجربة مجموعة الزراعة السودانية الأمريكية بمينيسوتا". ووجدت خالد الحسن أكثر من مجرد راع لتجربة زراعية. فهو كذلك رائد، ومصلح أجتماعي، ممن عز وجودهم بيننا، كما سنرى.
١. الزراعة كثقافة وكملجأ أجتماعي في المهجر:
عرّف مدير الندوة الأستاذ عبد الرحمن الحاج يوسف بخالد الحسن، بصورة سودانية كلاسيكية، تشبه التعريف المعتاد بالأَعْلام في التلفزيون السوداني. وكان الاسلوب مما لا يغباني وربما أشتقت له. وهو في حالة خالد الحسن كان يسير في اتجاه معاكس لفكرة "إن شاء الله يوم شكرك ما يجي" فليس خالد حاضرا بيننا فقط، بل وبشبابه يشع طاقة وكان أغلب كلام خالد نفسه متجها بصورة منعشة نحو المستقبل. حتى لتكاد تظن أنه لم يسمع بالحرب! وتلك بسالة روحية هي شرط في "المصلح الأجتماعي".
تعريفات خالد كانت غريبة: ساهم في مبادرة اوركسترا السودانيين في مينيسوتا، مشروع الركشة التي تعمل بالطاقة الشمسية، مبادرة توظيف سوداني، مبادرة ارشاد طالب جامعي في السودان. بجانب ما يمكن توقعه: عضو مكتب تنفيذي بالجالية وغيرها. ومن هذا التعريف كان أنتباهي قد وصل أوجه.
في محاضرة المهندس خالد الحسن أشارة واضحة لفكرة أن الزراعة ثقافة. ومن هذا المنطلق فصل خالد في المشروع كمشروع اجتماعي/ثقافي قبل أن يكون مشروعا استثماريا. ولم يقفل خالد هذا الباب، أي باب الاستثمار، ولكن جعله في مكانه الصحيح في الدرجة الثانية. فدخول الواحد منا للسوق بغير تأسيس ثقافي هو أضعاف للثقافة وللقدرة على كسب العيش على السواء.
في معرض حديثه ركز خالد على الجانب التربوي في الزراعة: فهي ليست فقط مكان أتصال مع الارض الام، بل كذلك وسيلة لربط مأكلنا بتاريخنا. فالعجور مثلا وهو نبتة خضار معروفة لنا كسودانيين تكاد لا تخلوا منها صينية هو مما ينعدم في الغرب. وبالتالي فإن في زراعته تربية للجيل التالي على فرادات ثقافية في الأكل يستحيل الانسان بدونها لواجهة لثقافة لا يعلم تفاصيلها في جوانبها غير الرسمية (وبمثل هذه الجوانب غير الرسمية، الأكل والشرب واللبس وغيرها، تتماسك عرى الثقافة في الحقيقة). لكن استعمال الزراعة لتربية النشء يمتد عند خالد لتربية الخرفان ومنح الطفل السوداني من الجيل الاول (مواليد أمريكا) فرصة لاتصال مع هذا الحيوان الذي هو بدوره جزء "طبيعي" من ثقافتنا.
ذكر خالد كذلك أن الزراعة نفسها "خشوم بيوت". فحكى أنه والنفر الكريم معه وضعوا أسسا لمشروعهم يقوم على الثقافة السودانية. فبذلك تكون تجربة المزرعة السودانية هي تدريب في الترقي الروحي حسب معاييرنا. وتلك سباحة "أفندية مضادة" في تعبير المفكر عبد الله علي ابرهيم، إذ يروج بين الأفندية السودانيين الرغبة في التخلق باخلاق الغرب الذين يحترمون الوقت إلخ. بينما تجد خالد راغبا في تنشئة نفسه والأبناء على شروط تخلق سودانية يراها خالد منتجة ومفيدة. بل يرى فيها خالد أضافة نقدمها نحن السودانيون الأمريكيون لهذا المجتمع الذي استضافنا.
٢. المغترب/المهاجر كسائح روحي:
تشعر في حديث المهندس خالد جذرا من الحنين للوطن لكن ليس ك نوستالجيا فقط. بل كإعادة اكتشاف. فقد رأى خالد مثلا أن من قدرة السودانيين، عبر اصرارهم على ما يسميه عبد الله علي ابراهيم "الكلاسيكية الإنسانية": التراحم والاهتمام بالونسة والتواصل الاجتماعي ومعرفة الناس و حفظ العلاقات، كمحددات عليا فوق السوق والمؤسسية. عبر اصرارهم على هذه الكلاسيكية وجد خالد أنهم كذلك قادرون على تحويل هذه الاجواء لمشاريع مثل المزرعة السودانية. وأنجاحها.
وفي هذا السياق ذكر خالد "البجراوية" وصروحها بديعة التصميم التي لم يزرها خالد أثناء حياته في السودان كطالب بل زارها كجزء من أعادة أكتشاف الوطن عبر السياحة الروحية في الهجرة. ومثل هذا "الجدل" Reflection بين الحضور و الغياب. الوطن والهجرة. هو من مهامنا كمهاجرين، ربما يمكننا نحن فقط أن نرى عبر هذا الجدل من بديع ثقافتنا وعظيم فرادتنا ما لا تسمح الفة الباقي في الوطن على رؤيته.
٣. المؤسسة:
شرح خالد ببساطة ووضوح الطريقة العملية لخلق مزرعة جماعية. فيها تفاصيل عملية يمكن سماعها في الندوة على هذا الرابط. مثل كيفية تسجيل شركة وكيفية تأجير الأرض ألخ. لكن كذلك شرح خالد نظام العمل الجماعي في المزرعة وهو نظام ايغاليتاري (يقوم على تساوي الجميع في المهام والعمل)، تمتزج فيه اللقاءات الاجتماعية مع عملية التدريب التي تحدث تلقائيا. فيرحب خالد عبر الندوة بالقادمين الجدد ويشرح لهم أن المبتدئ في الزراعة سيجد نفسها مقحما عمليا في المسألة بلا تعقيد فيتعلم بوضع اليد. والهيكل (النظام الاساسي مكتوب ومتفق عليه، التسجيل الحكومي ألخ) مع البساطة، هو سبيل خالق المؤسسة، مثل خالد، لتحويل مجتمعات السودانيين من بسيط التلقائية، إلى العمل ذو الاهداف، القادر على تسلق السبيل ومنح القدرة على الخلق والتأثير.
فتجد أن المزرعة تحولت بمرور الوقت لمكان يلتقي في الاجتماعي والتقني: خالد والنفر حوله من المزارعين والمهندسين، ألتقوا بتخصصات أخرى خاصة من طلاب الجامعات السودانيين في مينيابوليس وهي مدينة علم معروفة في الولايات المتحدة. وأدى ذلك لتطور أفكار مثل الركشة التي تعمل بالطاقة الشمسية، المشروع الذي ارتبط كذلك بجامعة مروي في السودان وأصبح منطقة لنوع أو آخر من ريادة الاعمال، الاستثمارية والعلمية.
شعرت أن المهندس خالد قد فك ربما بعض من شفرة المؤسسية السودانية. وهي مما يستعصي في العادة على الفاعل؛ فمحاولة مجرد المؤسسة كتقليد لنظم العمل الغربية يخرج أحيانا مؤسسات بلا طعم ولا رائحة تكون محدودة الفائدة (راجع مقالاتي عن تجمع الأطباء - سابا) أو يؤدي لعدم القدرة على الخلق المؤسسي. بينما تجد في تقديم خالد مؤسسة لها روح سودانية تبني هيكلها من داخل نقاط قوة الثقافة السودانية وفرادتها فتظهر أصيلة وحديثة في نفس الوقت.
٤. الوجبة بعد المحاضرة:
ربما سيكون من المضحك أنني وصلت مرحلة من الشوق للأكل السوداني، حتى أنني لأضع مذاق الكسرة بملاح تقلية الذي قدم بعد المحاضرة في نفس مرتبة المحاضرة نفسها. وبلا خجل.
وديل أهلي..
للاطلاع بصورة موسعة على المشروع:
www.SudaneseFarmingGroup.com
تقرير لصحيفة الغارديان عن المشروع:
https://www.theguardian.com/environment/article/2024/aug/21/sudanese-farm-minnesota