لم أستغرق كثيرا من الوقت بعد انطلاق ثورة ديمسبر حتى كرهت بكل جوارحي المتلازمة (نبدأ بالتحية على أرواح الشهداء) التي كان السياسيون قد تعودوا قولها في بداية حديثهم. الحديث الذي يكون في غالب الأمر على العكس مما أراد أي شهيد من الشهداء. أو حتى أي انسان سوداني عادي لم يستشهد.
لذلك ربما قضيت اليوم، أحاول مثل كل الذكرى التي مضت على الثورة، أن أتفادى التفكير في أو الكتابة عن الثورة. بعد العودة من يوم عمل طويل أخترت أن أكمل فلما كنت قد بدأته لمخرجي المفضلين، الاخوة العجيبين كوين، الفلم Miller’s Crossings لم يكن في المستوى وتركني في حالة ملل لم تزل.
فجأة تذكرت ملفا كنت ورثته كمدير لمكتب الميديا في تجمع الاطباء السودانيين في الولايات المتحدة يحوي فيديوهات عديدة من اعتصام القيادة. (الفيديوهات هي ملكية لسابا، التي أصبح بيني وبينها ما صنع الحداد، لكني أراها أكثر من ذلك ملكية لعموم الشعب السوداني وسأقوم برفعها في يوتيوب قريبا إن شاء الله، كنت في أيام فترة ترؤسي لمكتب الميديا قد حاولت أن أوصلها لمخرجين سودانيين ليقوموا بمونتاجها ونشرها ربما لكن لم نوفق كما لو توفق مشاريع عديدة أخرى، وكله لخير).
المهم جلست أشاهد في الفيديوهات. والغريبة، ما عدى مسحة أسى خفيفة، لم أصب بالحزن. بل بدت لي المشاهد وكأنها عصية على غبار التاريخ. تنتمي لفضاء خالد، مرح، وكوميدي حتى، بالمعنى الأسمى للكوميديا، وهي الضحك المرح رغم الالم.
أروع ما في ميدان الاعتصام كان مجموعة الشباب الذين كانوا يدقون من أعلى النفق، طق طرق طق طق.. صابنها. وربما علمت التجارب هؤلاء الصبية، وعلمتنا، أن "صابنها" هذه ليست سهلة. وفكرت في ضحك أن إذا سألني الناس بعد عشرات السنين لماذا مازلت مصرا على الديمقراطية الواحدة دي.. فأجاوب لأني مازلت صابيها. وأشكر للصبية تعليمي الصبر.
في مشهد آخر وجدت شبابا "شفيفا"، كما في التعبير ال
ساخر من دراويش الشمال، "الشعراء المطاليق"، وغيرهم، يقوم بتزيين شتلة. هذه المفارقة بين وجهة نظر هؤلاء الشباب، ووجهة نظر شباب آخرين حاليا يهيمون على وجوههم ب "المعاملة كيف"، هي تلخيص لوجهتي نظر. وستحتاج لأن "تصبها" في موقعك كي لا تتزحزح أمام العنف. أو حتى لأن تدخل وجة النظر الاولى، في العنف نفسه، فعنف الثوري يأتي رحمة لا تقل جمالا عن هذه الشتلة. وربما تمادى الاعتصام في الجمال، أحسانا، ونسي الوجه الآخر للحق وهو العنف. وتلك في عرف التاريخ خطيئة.
وطق طرق طق طق … صابنها.
ربما وجب التذكير. بأن الذاكرة هي، نوستالجيا، وطاقة نحو المستقبل كذلك. وأن ثورات السودانيين الأربع لم تكن حالة عابرة من الزهج العام، بل مشروع ديمقراطي جذري لبناء الامة من أسفل بقوة الحق والحرية. وما يزال هذا المشروع هو المشروع الوحيد الممكن. بينما تشاغب مشاريع الشمولية والقهر مرة بعد الأخرى. فمن تذكر الثورة فعليه بالثبات على أجندتها: خلونا من قحت والكيزان والمهرجين ديل كلهم، تذكروا فقط الشعب نفسه الذي خرج مرارا يسعى لحكم نفسه بنفسه وأنقاذ الوطن.