من الذاكرة:
تذكرت وأنا أقرأ اليوم عن المنشورات التأسيسية المعروفة في تاريخ الدستور الامريكي ب"الأوراق الفيدرالية" Federalist Papers. وهي مجموعة من الكتابات الدورية في الصحف نشرت في الفترة بين أكتوبر ١٧٨٧م و أبريل ١٧٨٨م. وهي من كتابة كل من الكساندر هاملتون، توماس ماديسون وجون جاي. وهؤلاء كانوا من صناع مقترح الدستور الامريكي الناتج عن مؤتمر فيلاديلفيا في ١٧٨٧م. وقد قاموا بكتابة "الأوراق الفيدرالية" كحملة ثقافية تحض الولايات على اجازة الدستور وقد كان لهم ذلك بالمحصلة في ١٧٨٩م.
تذكرت، وأنا أتعرف على ملابسات عملية كتابة ونشر هذه الاوراق. كأوراق ثقافية تأسيسية مبذولة لعامة الناس تعرفهم بالدستور وتناقش مقدماته الفلسفية ونتائجه العملية. تذكرت محاولة كنت قد قمت بها في حوالي يوليو ٢٠٢٠ في شكل مقترح لشيء أسميته (مناقشات الدستور) وكان قد عمل معي (كنت وقتها في المكتب التنفيذي لتجمع الأطباء في أمريكا)، عدد من طلاب جامعة الخرطوم من كليات الطب والهندسة والرياضيات حسب ما أذكر وكذلك ويني عمر من مؤسسة الفكر الديمقراطي. وكنا قد توصلنا في أحدى حلقات كتابة المقترح لهذه الورقة (هي لم تكن وثيقة مكتملة تم التوقيع عليها بل مجرد مقترح):
وكان المشروع قد لقي معارضة شديدة في الحقيقة (لم أتوقعها أطلاقا وبالتالي أضعت مجهودا كبيرا في المسألة) من قبل عضوية تجمع الاطباء السودانيين في الولايات المتحدة (سابا) حال طرحه عليهم. فمن منظور من علق معارضا وقتها قد كان أن مثل هذه المناقشات هي ليست من أختصاص منظمة مجتمع مدني مثل (سابا). (كنت أرى أن مثل هذا التحالف: سابا، طلاب جامعة الخرطوم، ومؤسسة الفكر الديمقراطي، هو تحالف مشروع جدا في أطار تعريف الناس بالمسألة الدستورية وهي مسألة تهم المجتمع ككل). عموما تحت ضغط العضوية لم يتمكن المكتب التنفيذي من أجازة ميزانية المشروع وبالتالي فقط أهم داعميه المحتملين. وتوقف للأسف.
المشكلة الأخرى التي واجهتني هي عدم رغبة مؤسسة الفكر الديمقراطي (ممثلة في ويني عمر وقتها) في تخصيص اي متحدث أسلامي فيما يخص مناقشة فكرة الدستور الاسلامي (كنت أرى أن أي مناقشة دستورية لا تضع مجالا كافيا لسماع رأي الاسلاميين في أكثر صوره رصانة -كنت أقترحت التجاني عبدالقادر- لن تكون مجدية في الاحاطة بالمسألة. وكنت لا أرى في المشروع ترويجا لفكرة معينة بقدر أنه فتح مساحة نقاش عام رصين).
عموما، وربما بسبب هذا الزهد في الديمقراطية والمسألة الدستورية من قبل منظمات المجتمع المدني السودانية، لم تؤدي ثورة ديسمبر لفتح هذا الباب من ضمن ما فتحته من ابواب. وتم الاجهاز عليها قبل أن تصل المسألة لنقطة الأزمة الدستورية. وهي الازمة التي لا فكاك منها. في رأيي. أيا كان مآل الوضع الراهن.
الديمقراطية كروح المجتمع:
كنت أفكر وأنا أشاهد الحراك الواسع الداعم لفلسطين وغزة بين الطلاب العرب وغيرهم، بأنه ربما صحت المقارنة بينهم وبين زملائهم في المملكة السعودية أو مصر حتى. فبينما تضعضع الشمولية من روح الناس وتفقدهم، أحيانا بالارهاب والتخويف، وأحيانا بالافساد المنهجي، تفقدهم روح القدرة على الفعل في التاريخ. أو حتى الرغبة في ذلك (لاحظ أنه لا يوجد حتى تململ في المجتمعات العربية تحت الشموليات من واقعهم الخالي من السياسة حتى فيما يخص مرتكزاتهم ومقدساتهم).
لم اذن بقيت القدرة على الفعل بين ابناء العرب في المهجر الامريكي وماتت في الارض الام؟
وستكون الاجابة دائما: الديمقراطية. ففي الديمقراطية، هنالك أولا الحرية الشكلية، التي يمكن تحويلها لمضامين متى توفرت الارادة. ثم هنالك ثقل الكتلة الديمقراطية نفسه. في الديمقراطية فإن مجرد وجودك في المساحة السياسية نفسها هو عامل بالتعريف. صوت. وبالتالي فإن السكان انفسهم هم في الديمقراطية أدوات سياسية.
ويتبع من ذلك أن "تسييس" المجتمع في الديمقراطية هو متضمن سلفا. وليس طارئا. فوجد العربي، حتى أكثر من قتلت سنوات العيش تحت الشمولية روحه، من جديد، حيا. وربما رغما عنه. وهذه ميشيغن اليوم تضج بسياسة الشرق الاوسط. ربما أكثر من أي عاصمة عربية.
أسوأ أنواع الديمقراطية … أفضل من كل الشموليات
قد يجد القارئ اليساري. الجذري. خاصة من منطقتنا، في محبتي للديمقراطية الامريكية ما يذمني به: فهي عند بعض الجذريين مساحة كذب محض لمصلحة البرجوازية. فيسمونها "الديمقراطية البرجوازية" … "وإن جا عليها كلب ما بيقولو جر" في تعبير أحد السياسيين السودانيين أبان الديمقراطية الثانية (قال ان هجم كلب على الديمقراطية، ما زجرناه).
وهؤلاء اليساريون في العادة من النوعية التي يستبد بها التطهر النظري لدرجة تعيق على الحركة. فهم بلا مشروع بالتالي، أو بمشاريع خيالية ليس هنالك احتمال لتحققها. وبالتالي، ولحسن الحظ ربما، فإننا لن نشاهد "ديمقراطيات الشعب" التي يعدوننا بها. وهي بالتاكيد حالات شاذة من "تجريع الناس غصص السعادة من أعلى" في تعبير استاذنا عبداللهي علي ابراهيم.
لكن في المقابل أقول. بأن الوضوح النظري عندي فيما يخص الديمقراطية في جوهرها. والذي يجعلني دائما أثمن الدستور الامريكي وخاصة جذريته فيما يخص الحق في التعبير والحق في امتلاك السلاح. فإن ذلك على الصعيد الآخر لا يحجب عني حقيقة أن الديمقراطية الامريكية هي ديمقراطية كسيحة ومدجنة في أغلب تفاصيلها: لاحظ مثلا أن العمل المتناغم بين كبار رجال الاعمال المانحين، ومؤسسات الميديا، ومؤسسات الاكاديميا، والمؤسسة الأمنية، وجهاز الدولة البيروقراطي، لمصلحة الحزب الديمقراطي (بحجة الوقوف ضد ترمب) قد مكن هذه الآلة Establishment من ايصال شخص مصاب بمرض الديمينشيا (الخرف) للسلطة. وتلك عاهة حقيقية وخطيرة.
إلا أنني افضل بين التأسيس الديمقراطي. وتطبيقاته. ومنعطفاته. فكل هذا التركيز للقوة (الذي حصل رغما عن الديمقراطية) فإنه لم يمنع جغرافية السلطة الفيدرالية (الحفاظ على مستويات السلطة الادنى، الولائية والمدينية مقسمة وغير مركزة)، لا مركزية القدرة على التعبير (صعود نجم الصحفيين المستقلين، وناشطي البودكاست)، ولا قدرة المجتمعات خارج الشركات في الريف على تنظيم نفسها. هذا التحالف الآخر، ممثلا في حملة ترمب الانتخابية (على علاتها) جاء نتيجة امكانية هيكلية لا يمكن أن توجد في أي نظام شمولي. ما يلاحظ أحيانا أنه عشوائية او حتى كوميديا داخل السياسة الامريكية هو وفي نفس الوقت أهم مميزات الوضع الديمقراطي: هو وضع يصعب غلقه بالكامل. بل يستحيل ذلك هيكليا.
وبالتالي فإن الديمقراطية الامريكية التي هي أسوأ انواع الديمقراطيات من حيث آلية التقرير: ديمقراطية تمثيلية، بها الكثير من المركزية. هي في نفس الوقت أفضل من أي وضع شمولي مهما بدا ناجحا في اللحظة الآنية المعينة. (وجب عند النظر العام للشموليات حول العالم، الفصل بينها وبين النظام الصيني في التحليل. فالنظام الصيني والسينغافوري وأشباههم ينتمي لنوع من الشموليات التي على رأسها حزب جماهيري بتراتبية وهياكل معقدة تسمح بالتفاوض المجتمعي داخلها بصورة حقيقية. الأمر الذي لا ينطبق على شموليات بسيطة كالنظام المصري أو السعودي أو الرواندي. حيث الاعتماد هو على الأجهزة الامنية والبيروقراطية للدولة بصورة أكبر بدلا عن الدور الاجتماعي التفاوضي للحزب).
وهنالك بالطبع أنواع أخرى من الديمقراطية ممكنة. خاصة في مجال طريقة أتخاذ القرار. مثل الديمقراطية التشاركية أو التداولية Deliberative أو المباشرة. وكلها قد يكون لها استعمالات اكثر جودة من الديمقراطية التمثيلية خاصة في مؤسسات الحكم الدنيا وفي أطار الحكم غير الفيدرالي الذي يحول المدن لوحدات شبه مستقلة. لكن هذا لا يمنع إطلاقا من رؤية الجيد في الديمقراطية الامريكية الحالية وهو كثير.
دعوة لدراسة الديمقراطيات حول العالم:
كنت في أطار المشروع المقترح لمناقشات الدستور الذي اشرت له في الاعلى، قد خططت مع بقية الشركاء فيه، لاكثر من جلسة تناقش التجارب الدستورية الديمقراطية الأخرى. فعملية التأسيس لنظام سياسي قانوني قابل للاستمرار، لا بد أن تمر عبر فهم لتجربة الانسانية مع مؤسسة الديمقراطية. فالديمقراطية الامريكية كنموذج أكبر قد لا تكون كافية وسيكون من الضروري دراسة التجارب الديمقراطية الراسخة حولنا: النيجيرية، الغانية، الجنوب أفريقية، البوتسوانية ألخ. ثم كذلك الديمقراطيات الكبرى في العالم: الهند والبرازيل والولايات المتحدة.
كنت في معرض نقاش مع أحد الشباب مؤخرا (كان يحاجج بأن الديمقراطية تكوين غربي قد لا يكون ملائما لبيئتنا) قد ذكرت له حجتان ضد طرحه:
١. أنني اتشكك دائما من رفض البعض للديمقراطية الغربية بينما يقبل كل شيء عداها عن الغرب بلا كثير لجاج. بل وأحيانا بتلذذ. فتجد مثلا الحركة الاسلامية السودانية تفتخر بأنها نشرت التعليم (الغربي، تأسست بخت الرضا على يد الاحتلال الانجليزي) في كل مكان في السودان فيما اسموه بثورة التعليم العالي. بل وتجد أن اغلب منتجات هذه الثورة كان ممن يتطلع للعمل والحياة في الغرب. بما في ذلك الكثير من الاسلاميين انفسهم. وأكثر: أنشأ أحد أبناء الحركة الاسلامية في السودان مدارس تعليم لغة انجليزية شهيرة. وكل ذلك ليس فيه غضاضة من حيث المبدأ. ويناقش بتفاصيله. نقطتي هنا أن المحافظين السودانيين لا يهابون من الغرب إلا ديمقراطيته. وذلك نفاق واضح.
٢. القول بغربية الديمقراطية هو قول صحيح فقط لو كان تاريخ العالم هو تاريخ الغرب. وتم مسح البقية بأستيكة. فالتجربة الانسانية التي ادت لوصول الغرب للمنطق القانوني الديمقراطي في النهاية لا يمكن فصلها من كل التجارب السابقة لها بحيث تصبح مثلا الفيزياء حقيقة غربية محضة. أو الفلسفة. وبينما هنالك بين الشعوب مميزات توجد عند بعض الناس حصرا. مثلا نظام التراحم في العزاء السوداني قد لا تجده بنفس التطابق لدى الامم الاخرى. فإنه لن يصح القول بمثل هذه الفرادة في الافكار المطلقة. وإلا لكانت أشياء كالدولة، والملك والملكية، والدين، والكنائس ألخ من عموميات الانسانية قابلة للنسبة حصرا هي الاخرى. ومن نافلة القول كذلك التذكير بأن ممارسي الديمقراطية اليوم في العالم، أغلبهم خارج الغرب. فالعديد من دول أمريكا اللاتينية وافريقيا والهند هي بمجموع تعداد سكاني يفوق تعداد الانسان الابيض. وكل هؤلاء ليسوا مجرد قطعان. هذه الشعوب رأت الحقيقة. وأحبتها.
ونسأل الله النصر بالديمقراطية. وعبر الديمقراطية. فالديمقراطية في جوهرها هي محبة الشعب صدقا وبلا لجلجة.
وقل اللهم مالك الملك.. تؤتي الملك من تشاء.
www.Zalam-Blog.com