مقدمة السلسلة:
يمكن فهم هذه السلسلة من مدخل سلسلة مقالات أخرى أكتبها حاليا حول رؤيتي للمجتمعات السودانية في الولايات المتحدة. إلا أنه يمكن فهمها كذلك عبر هذه القصة الطريفة ربما:
مع اقتراب موعد الانتخابات الامريكية في نوفمبر الجاري، قرأت منشورا موقعا بأسم شخص اسمه أمين أبوبكر لا اعرفه لكن يبدوا من المنشور أنه سوداني أمريكي. وكان أمين يقدم حسب عنوان المنشور "مرافعة في الزمن الاضافي" لمصلحة مرشحة الحزب الديمقراطي كمالا هاريس. وليس في ذلك غضاضة اللهم إلا أن سببه الأول في حث الناس للتصويت لهاريس كان الآتي:
الأول هو و كما ذكر الكثيرين من القادة الجمهوريين المحافظين مثل شينى الابنة و شينى الأب و كولن بأول و مت رامنى و غيرهم من قادة الجمهوريين المخضرمين المحترمين المبدءييين ان الرجل خطر على الديمقراطية الاميركية و على الدولة الاميركية ، حاضرها و مستقبلها.
فحسب السيد أبوبكر أمين فأول دوافع المرأ للتصويت لكمالا هاريس هي أتباعه لآراء الأسرة شيني (ويقصد نائب الرئيس السابق في عهد جورج بوش الابن)، الأسرة التي تمثل "الجمهوريين المخضرمين" وذلك توصيف بلا دلالة يمكن تجاوزه، لكن يضيف الكاتب: "المحترمين، المبدئيين". والغريب أن كاتب هذه الكلمات العجيبة قد أقنع سودانيا آخر بنشرها. وشر البلية ما يضحك.
وديك شيني، لا يصح بحقه نفي الاحترام والمبدئية فقط (لكنه بالطبع مخضرم، وهذه ربما اقتبسها الكاتب من تعليق معتاد في أطار كرة القدم، يبني العديد من السودانيين لغتهم الثقافية على قراءة الصحف الرياضية وذلك كما هو واضح أمر جيد وسيء في نفس الوقت). بل وكذلك يستحق ديك شيني، حسب الصحفي المعروف غلين غرينوولد أن يكون في السجن كمجرم كما في هذا التعليق المنشور في ٢٠١٤. وجرائم ديك شيني، التي يعددها غرينوولد، إن كان في التخطيط ل، وتنفيذ، حرب العراق تحت دعاوى كاذبة، أو الموافقة على ممارسة التعذيب (يمنع الدستور الامريكي أي عقوبة غير معتادة Unusual punishment)، جرائم ديك شيني هي مما أرتكبه في حق أخوتنا في العراق وتأثر بها بقية أخوتنا في الشرق الاوسط من مجموع النتائج فائقة الكارثية التالية. فنحن وديك شيني معارف. بل ورفاق درب للاسف. ما بيغبانا.
لماذا، في المقابل، كون السيد أبوبكر الأمين، وبقية ناشري كلامه عبر الوسائط، مثل هذا التصور الكاريكاتوري للسياسة الامريكية؟
الإجابة: عبر متابعة الاعلام الامريكي الرسمي (الرسمي بمعنى Establishment). يقدم هذا الاعلام نسخة تكاد تكون خيالية عن الواقع. على سبيل المثال لم تكن تغطية الاعلام الأمريكي لخبر مذكرة اعتقال ناتنياهو وغالانت شحيحا فحسب، بل كذلك بلا خلفية تاريخية تمكن المتابع من ملاحظة المواقف النفاقية للادارات الامريكية المتعاقبة من هذه المحكمة. ففي حين تحمست الادارة الامريكية لمذكرة أعتقال البشير قبل أعوام، وقفت في أوقات أخرى ضد المحكمة بصورة فجة كما في حالة ناتنياهو. هذا النوع من الانتقائية بالطبع لن يسعى الاعلام لتوضيحه للمشاهد. وبالتالي مع مرور الوقت لن ينجوا ديك شيني فقط بجلده ويعود عبر النسيان المتعمد "محترما ومبدئيا" بل وسينجوا ناتنياهو كذلك.
في مقابل هذا الاعلام وفر الإنترنت العديد من المنافذ الاعلامية المستقلة (أو القاعدية) التي توفر تغطية مختلفة جذريا للمجتمع والسياسة الامريكية. وهذا ما سأحاول نقله عبر هذه السلسلة الدورية حسب متابعتي لصحفيين وكتاب وكوميديين وسياسيين مثل مات تاييبي، آرون ماتي، غلين غرينوولد، جيمي دور، القاضي نابوليتانو، علماء السياسة الامريكية جون ميرشايمر و جيفري ساكس، عالم الاحياء والاعلامي حاليا بريت واينستين وأخوه أريك، وغيرهم من النماذج لأمريكا المضادة التي ربما تفاجأ البعض بانقلابها على الحزب الديمقراطية (و الحزب الجمهوري في شقه النخبوي Establishment) حتى وإن في صورة دونالد ترمب. لفهم هذا الانقلاب من خارج عدسة التحليل المهترأة (يمين ضد يسار)، راجع الحملة المعروفة ب "أنقذوا الجمهورية".
وليست أمريكا المضادة، أكثر حقيقية فقط، من أمريكا المتخيلة في الأعلام، بل هي كذلك أكثر أثارة للاهتمام والرغبة في التعرف عليها ودراستها. ففي حين يعتمد الاعلام الرسمي على استراتيجية الحديث المختصر الذي يخدع بسطحيته المشاهد، وعلى النسيان، لتطبيق استراتيجية "خلق الاجماع" في تعبير شهير لنعوم شومسكي. ستجد في المقابل أن الاعلام البديل أو المستقل يعتمد أسلوب الحوارية الطويلة، كما عند جو روغان، أو السلاسل التاريخية المفصلة مثل هذه الحلقة الرائعة عن الهنود الحمر مثلا. وبالتالي فأمريكا المضادة هي ربما ليست مما نتعامل معه كهيكل ثابت يأتينا مبسترا عبر اعلامه. بل هي كيان تاريخي تعمل في داخله آلات التاريخ وبصفتها قطب العالم الاوحد فيعنينا التعرف عليها على حقيقتها، كمراقبة ومعرفة أولا، ثم كفعالية في مرحلة تالية.
أول حلقة مختصرة: أسبوع ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٤
لأن المقدمة استطالت، سأكتفي في هذا الاسبوع الاول بلقاء (أصبح دوريا) عقده القاضي نابوليتانو مع العقيد المتعاقد في الجيش الامريكي دوغلاس ماكريغور. وأتابع عبر تحليلات ماكريغور ليس فقط أخبار الحرب الاوكرانية الامريكية بل وكذلك أخبار حرب غزة ولبنان، إذ يقدم العقيد تحليلا من المنظور الايديولوجي لفكرة "أمريكا أولا" بصورة جذرية. وستجد أن هذه الفكرة هي ربما من مصلحة الامريكيين ومصلحتنا كذلك كعرب أو شرق اوسطيين. وللعقيد قصة عجيبة ربما نحكيها في فترات تالية، إلا أنه وجب التركيز على ذكائه وقدرته التحليلية الكبيرة بلا أنحياز (إلا لبلده وذلك مشروع، بل متوقع من جندي سابق). ولخريج المدرسة العسكرية المعروفة ويست بوينت كتاب تأسيسي في العلوم العسكرية هو Breaking the Phalanx: A New Design for Landpower in the 21st Century.
وستجد ماكريغور في هذه الحلقة مشفقا من احتماليات الحرب العالمية الثالثة. الحرب التي يسعى الرئيس بايدن أليها بصورة محمومة. وما يزيد الامر درامية هو أن ما يفعله الرئيس بايدن في اخر ايامه، وهو الرئيس الذي تدور شكوك كثيرة حول سلامه عقله حتى وصفه الصحفي المعروف مات تاييبي ب"الامبراطور عاري العقل"، أن ما يفعله الرئيس بايدن هو مما رفضه الشعب الامريكي ديمقراطيا بصورة واضحة.
على كل سترى في الحلقة أن سياسات الحروب في الولايات المتحدة الامريكية هي سياسات، مثل غيرها، يحدث في شقاق كثيف بين القاعدة والنخبة. وللقاعدة نفسها نخب رصينة. مثل العقيد ماكريغور. مشاهدة ممتعة:
في الختام أرحب بالتعليقات على المقال، خاصة إذا كان هنالك أقتراحات لمواد يمكن تغطيتها فيما يخص أي أسبوع في أمريكا، إن كانت سياسية، ثقافية، فنية أو غيرها. أرحب كذلك بالتواصل عبر ايميل المدونة
mahmoud@zalam-blog.com
أخيرا أذكّر بأنه يمكن الأشتراك في قناة المدونة على واتساب عبر الرابط.