الديمقراطية التشاركية: تجربة بورتو أليغري
مقال تعريفي بتجربة رائدة (وفيديو محاضرة قدمتها في ٢٠٢٠ حول الموضوع)
نشر في ١٠ أغسطس ٢٠٢١ في صحيفة مداميك الالكترونية
سيكون على الثوريين دائماً أن يعيشوا، كما يقول آلان باديو، في زمن غير الزمن العام. ويعني ذلك رؤية أن عملية التغيير لا تحدث في اللحظة الراهنة، بحيث يكون سؤال الفاعلين هو: ماذا قال حميدتي وماذا فعل كباشي؟ ربما ذلك جزء من السؤال، ولكن السؤال الأهم هو دائماً قابع في لحظة لم تأتِ بعد. يمكن التحضير لها، وبالتالي احتلالها بالكامل.
واجهت الديمقراطية البرلمانية في السودان، خلال محاولاتها الثلاث، مشكلات عدة. تلخصت في النهاية في غياب القدرة على إقرار الدساتير الدائمة، ولا حل مشكلات الحرب، ولا تثبيت التحالف الديمقراطي، الذي يبدأ كل مرة ثورياً معارضاً ثم ينهكه أمر الحكم فيتفرق أيدي سبأ، ليتحول إلى تحالف راسخ قادر على حماية الديمقراطية البرلمانية. سبب هذا الأمر في رأيي هو أن عملية التحريك الاجتماعي بعد كل ثورة تتعرض لقطع. فمن كانوا بالأمس وقود الثورة، تصبح السلطة الجديدة غير راغبة في نشاطهم المتواصل. فتتوقف النقابة في مرحلة (اللجنة التسييرية)، ولجنة الحي في مرحلة (لجنة المقاومة، المكونة من قادة بلا قاعدة)، ويصبح الحراك الثوري مقصوراً على التنظيمات الثورية الفوقية، وبالتالي يسهل النيل منه.
فالقيادة ربما تستلطف لحظة غياب القاعدة الفاعلة؛ لأنها تتجنب عبر ذلك مرارة النزول عند قوة الجماهير، ولكنها كقيادة ديمقراطية التوجه تصبح غير ذات قوة بدون فعالية القاعدة. يمكن للحزب أن يهيمن على النقابة وبالتالي يسكت صوت العمال المنظم، الذي ربما يتفوه بما لا يريده ذلك القائد، ولكنه بهذه العملية يضعف ذاته من حيث لا يدري. فالضعف الذي حاق بالديمقراطية حتى لم ينهر الكلب عنها سابقاً، لم يكن نتيجة صدفة.
فيديو لمحاضرة عن الديمقراطية التشاركية كنت قدمتها في ١٦ مايو ٢٠٢٠:
القرار التشاركي كتفعيل مستمر للقاعدة:
ليستتب أمر الديمقراطية البرلمانية في السودان، لابد أن ترفع بنوع آخر من الديمقراطية القاعدية. حيث يمارس الناس السياسة في ما يباشرهم من أمر، سياسة لا تقوم على المقاومة والمعارضة والنقد وكلام الزعل والزهج. بل تقوم على حصول الواحد منا على سلطة تجعله مسؤولاً، مواجهاً لمصالحه وموجهاً لها. فيدخل الفضاء العام كفاعل لا متفرج. وبالتالي يجنبنا "النفس المتفرجة" بما تحمله من نزق دائم ونقد غير بناء، ويشرفنا بـ"النفس الفاعلة" التي من صفاتها الصبر والتوافق والاقتراح والبناء.
ما هي الديمقراطية التشاركية؟
هي باختصار عملية إدارة الناس المباشرة لقضاياهم المحلية ومصالحهم. كلمة تشارك تأتي من "مشاركة"، بمعنى المساهمة في اتخاذ القرار. ولتقوم الديمقراطية التشاركية لابد من توفر أمرين؛ الأول هو القاعدة الديمقراطية حيث يدير الناس الأمر عبر الجمعيات العمومية والاقتراع، والثاني هو مساحة السلطة التي يقرر فيها الناس باستقلالية. هنالك عدة أشكال لمساحات السلطة. فالمدرسة وإدارتها هي مساحة سلطة، يمكن أن تنقل من الجهاز التنفيذي للجان الديمقراطية في الأحياء تديرها تشاركياً، وهكذا. ولكننا هنا نريد أن نوضح الفكرة في تجربة مدينة بورتو أليغري في البرازيل، حيث كانت (الميزانية) هي مساحة السلطة المدارة تشاركياً.
بورتو أليغري:
قام البنك الدولي في 2003 بدراسة تحليلية لما سمي بـ"تجربة بورتو أليغري في الميزانية التشاركية"، وسالخص هنا ما نصت عليه هذه الدراسة: بورتو أليغري مدينة برازيلية يقطنها حوالى مليون شخص. وكانت تعاني منذ الستينيات إلى الثمانينيات، من المشكلات الشائعة في دولة نامية بها معدلات فقر عالية مثل البرازيل، ومن تبعات الحكم الشمولي. في 1989 وصل ممثلون من حزب العمال للسلطة في المدينة عبر الانتخابات، ولعظم المشاكل ومحاولة لزيادة ثقة الناس في الحكومة المحلية، واستجابة لمطالب الحراك المدني والنقابي القوي في بورتو أليغري، قرر الحزب تطبيق عملية تشاركية لإجازة الميزانية السنوية.
تبدأ العملية عبر عقد مؤتمرات قاعدية يشارك فيها جميع سكان كل حي أو منطقة على حده، مشاركة طوعية غير إلزامية. وفي هذه المؤتمرات يتم التداول في شأن المنطقة ووضع الأولويات ومناطق الصرف المطلوبة، وكيفية جمع العوائد (الضرائب، الجبايات إلخ)، وهكذا. من هذه المؤتمرات تخرج توصيات عبر استبيانات يملؤها الناس بعد التداول (لزيادة الوعي بالمشاكل وعدم التصويت اعتباطاً)، ويقوموا باختيار ممثل أو أكثر لهم حسب حجم المنطقة السكاني. كذلك تشمل العملية التداولية جولة يقوم بها المسؤولون على منظمات المجتمع المدني التي تمثل مصالح فئات معينة، كمنظمات المرأة والاتحادات الثقافية وغيرها، لتوثيق رؤيتهم للميزانية كذلك. في النهاية يكون هنالك 44 ممثلاً للناس، يأتون طواعية وبلا منصب دائم، لمجلس الميزانية التشاركي. رفقة هؤلاء الممثلين تكون هناك البيانات الإحصائية المأخوذة من القاعدة. وتصمم الميزانية بحيث يعطى عدد من النقاط للأشياء التي ترى القاعدة أنها أولوية، وعدد من النقاط للمناطق الأقل تنمية، وعدد من النقاط للمناطق ذات الكثافة العالية. وعليه يكون ترتيب الأولويات تشاركياً ومبنياً على العدالة الاجتماعية. ثم يجيز مجلس الميزانية التشاركية بعد تداول نهائي حولها.
ورغم أن بورتو أليغري كانت مثل بقية المدن المشابهة لها في البرازيل، تعاني من تبعات الهجرة وخروج المصانع من المدينة، إلا أنها بهذا الفعل القاعدي المختلف حققت إنجازات كبيرة جعلتها المدينة الأفضل في البرازيل لأربع سنين متتالية خلال العشر سنوات التالية. وارتفعت نسبة دخول الأطفال إلى المدارس العامة إلى الضعف، وارتفعت نسبة المناطق التي تغطيها شبكات الصرف الصحي من 46% إلى 85%. وفي تطور مهم يجب الانتباه له، زادت نسبة دفع الناس للضرائب بنسبة 50%، وارتفع عائد الضرائب من 54 مليوناً إلى 70 مليون دولار. وقد عزت الورقة ذلك إلى أثر الشفافية (عندما تقرر تشاركياً فأنت تطلع على مجريات الأمور وترى أثر القرار بشكل مباشر)، حيث زادت ثقة ورغبة الناس في دعم الحكومة المحلية. حزب العمال بدوره ارتفعت نسبة تأييده من 34% في 1989 إلى 56% في 1996. وفي الحقيقة فإننا هنا يمكن أن نقول إن الحلول "التقنية"، "التنظيرية"، مثل اتباع النهج التشاركي في القاعدة، هو مما لا تقدر عليه غير الأحزاب الحديثة، وعليها أن تنظر لأزمتها الديمقراطية (في مقابلة الطائفيين) من هذا المدخل الاستراتيجي بلا جزع ولا عدم صبر.
تغيير جوهري كذلك أشارت له الورقة وهو في تكسير فرضيات المتعلمين (الطبقة الوسطى) في مدينة بورتو أليغري عن "الفقراء" وعن "ديماغوجية حزب العمال". حيث أثبتت التجربة أن أفقر الأحياء في بورتو أليغري مارس فيها الناس العملية الديمقراطية التشاركية بقدر عالٍ من الالتزام والتوافقية والبراعة في اختيار الأولويات، وأن ما تعتقد الطبقة الوسطى أنها تحتكره مثل الرغبة في النظافة العامة للشوارع والاعتناء بالأماكن العامة وتوسيعها، هو كذلك مما يضعه الفقراء كأولويات ويجيزون ميزانية تعتني به. أدى ذلك لتوسيع الدعم السياسي لحزب العمال من قاعدته التقليدية (الأحياء الفقيرة والنقابات) إلى الطبقة الوسطى. (لاحظ أن البداية للأحزاب الطليعية هي في ترسيخ قاعدتها خارج الطبقة الوسطى، هذه الطبقة "غريبة الأطوار" لا يمكن الاعتماد عليها في أي مشروع سياسي في رأيي).
كذلك أدت العملية التشاركية إلى علاقة أفضل بين المواطن وموظفي الدولة. ففي حين أن العلاقة في العادة تسود فيها البيروقراطية الباردة وحجب المعلومات، فإن العملية التشاركية حولت موظف الدولة إلى موظف راغب في أن يفهمه الناس، فيبسط اللغة التقنية للغة سهلة بحيث يكون من الممكن للناس أن يؤدوا مقترحاته. سمت الورقة هذا التحول: التحول من التقنية البيروقراطية Techno-Bureaucracy إلى التقنية- الديمقراطية Techno-Democracy.
خاتمة:
على الشباب في لجان الأحياء، والناشطين النقابيين، أن يضعوا نصب عيونهم مثل هذا التغيير في القاعدة، نخلقه كنموذج يحافظ على مشاركة الناس في الفعل السياسي وعلى مصالحهم في نفس الوقت. وهذه العملية فائقة الديمقراطية لن تبدأ بالتحرك بدون أن يسيطر على الساحة وأفئدة الناس اسم واحد: الجمعية العمومية. أن تقوم المؤسسات على الجمعيات العمومية بلا أي تأخير أو تسويف.