هذا الاسبوع في أمريكا-٦: فلم "المعماري المتوحش"، الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية كعش للديدان، والشيروكي في غزة!
سلسلة أسبوعية عن أمريكا كما أعرفها
اسبوع ٦ فبراير ٢٠٢٥
أقرأ مقدمة السلسلة:
١. The Brutalist: الفن والحرب
فاق الفلم كل توقعاتي، رغم أنها كانت مرتفعة أصلا. هنالك أفلام تعرف مسبقا أنها ستعجبك، فلحظة رؤيتي لوجه الممثل أدريان برودي على غلاف الفلم تحمست لمشاهدة عمل كثيف وجميل آخر للمثل الامريكي من أصول بولندي/يهودي. وهو معروف عبر دوره غير القابل للنسيان في The Pianist عندما لعب دور عازف بيانو يهودي يحاول الهرب وسط الموسيقى من المذابح النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
والفلم غاية في التعبير عن ما يمكن وصفه بأدب الحرب. أو فن الحرب. وغاية في التكلم عن المعمار.
يحكي الفلم قصة معماري يهودي يهاجر من بودابست في هنغاريا إلى الساحل الشرقي الامريكي خلال الحرب العالمية الثانية. وخلال سرد طويل أمتد حوالي الثلاث ساعات (توقف السينما في منتصف الفلم لتعطينا فترة استراحة بين جزئي الفلم) نمر مع المعماري لازلو توث في سلسلة طويلة من الاحداث والمتاعب والخلق الفني عبر المعمار.
ولازلو توث معماري متوحش Brutalist إن صحت الترجمة. والمعمار المتوحش هو أحد منتجات وصول الحداثة الفنية لتقنية البناء وروحها. وربما يكون المعمار ألفن الوحيد الجماعي أو الإجتماعي بصورة متطرفة. فالمعماري يرسم على صفحة هي الفضاء العام نفسه. وبأدوات وتقنية هندسية وتكلفة بناء تتطلب فروعا عدة من أطياف المجتمع من غير الفنانين. ولأن المعمار ثابت نسبيا لفترة طويلة قد تمتد لعشرات، أو مئات أو حتى آلاف السنين، فالمعماري هو، وبالتعريف، مؤرخ، متى أخذ فنه على محمل الجد.
يمتاز المعمار المتوحش باستعمال المواد الخام (الخرسانة غالبا) بصورة طاغية بلا تلطيف جمالي بسيط. وهو بالتالي فن البناء كنوع من الإثبات. أو حتى الغضب إن شئت. أو فلنقل الفن عبر الفج أو المادي البائس. ومثل هذا التناقض بين الشكل (التصور النظري القاسي) و المضمون (الرسالة الجميلة جوهريا) هو آلة المعمار المتوحش لكتابة التاريخ. ولتقريب الفكرة، وجدت نفسي أفكر في بيت شعر عجيب للصادق الرضي في رائعته غناء العزلة كمثال للفن المتوحش في أفضل وأبسط صوره:
أنا أنت
نحن الناس والشارع
والعواميد التي تمتد بالأسفلت
صوتي, صوتك
المشروخ في صدأ المقاعد
وإنهيار البرلمان
ومباني المعمار المتوحش هي مذاق يجب التعود عليه في تعبير أنجليزي. أي أنك يجب أن تتجاوز الصدمة لترى الجمالية. وكنت ربما تعرضت لأحد أسوأ تجاربي مع المعمار المتوحش في مونتريال كندا إذ وقفت مباني سكنية، تم تصميمها خلال أحد الأولمبياد لأسكان الرياضيين، على ضفة النهر بشعة بصورة لا تصدق. فمثل الفن عبر الفجور هو حالة دقيقة يمكن أن تفقد ألقها بسرعة.
مع ذلك أبدع الفلم في أستعمال المعمار المتوحش لمناقشة حالة المهاجر من الحرب. فسيكون على الفن العبور عبر أدوات غير تقليدية ليتمكن من أنقاذ الروح الإنسانية المحطمة عبر الحرب. ومثل الحرب التي جاء منها يهودي مثل لازلو توث هي مما يقتل في العادة القدرة على الفن.
لذلك وجدت في هذا الحوار أهم مشاهد الفلم. والحوار ناتج عن شبه صداقة أو تقارب حدث بين لازلو لوث و الثري فان بيورين، الأمر الذي قاد المتثاقف فان بيورن لسؤال لازلو بصورة كليشيهية "لماذا المعمار؟".
VAN BUREN: So, answer me one question; why
architecture?
LÁSZLÓ: Is it a test?
VAN BUREN: Not at all.
LÁSZLÓ smiles through the pain of his broken nose.
LÁSZLÓ: … matter-of-fact … Nothing can be of its own explanation. Is there a better description of a cube than that of its construction? You know, some years ago, in March, a stranger knocked at the classroom door of the university where I frequently lectured. At once, all that was familiar and important to us was gone. We were too well-known at
home. I thought my reputation might help to protect us but- it was the opposite. There was no way to remain anonymous; nowhere for my family to go.
LÁSZLÓ sighs and changes course.
LÁSZLÓ: There was a war on, and yet it is my understanding that many of the sites of my projects have survived and are still there in the city.
(He smiles again and continues, choosing his words carefully.)
LÁSZLÓ: When the terrible recollections of what happened in Europe have ceased to humiliate us, I expect them to serve instead as a political stimulus, sparking the upheavals that so frequently occur in the cycles of peoplehood.
LÁSZLÓ: I already anticipate a communal rhetoric of anger and fear; a whole river of such frivolities may flow un-dammed, but my buildings were devised to endure such erosion of
the Danube’s shoreline.
وهذا الحوار هو حالة فن الحرب. أو الفن أثناء الحرب. أو الحرب عبر الفن. وهي حالة جهاد مطلق. كما هو واضح من تعثر الكلمات نفسها عن التعبير عن "وحشية" المسألة برمتها.
وهنا أعتقد أن الفلم كان على موعد غير متوقع مع الحقيقة: فالفلم مصمم، حسب ايديولوجيا هوليوود، للتبرير بصورة من الصور للصهيونية. باعتبار أن الصهيونية هي حالة عبور من الهجرة أو الهرب من الحرب إلى الوطن. وربما لذلك استعمل الكاتب كلمة Peoplehood في الحوار أعلاه. لكن لأن الحقيقة هي درجة نقية من الوجود لا تتأثر بهياكل الايديولوجيا، جاء الحوار بصورة واضحة معبرا عن حالة الإنسان الغزاوي. ومثل هذه السخرية، سخرية الحقيقة من الغرض، ترفع الفن كمستوى المجال الحق فلا يضر الفن الجيد غرض صاحبه. ويمكن للقاريء أن يلاحظ أنه ليس هنالك معمار "متوحش" الآن أكثر منه في غزة. ويمكننا أن نقتبس من لازلو ونقول أن جمالية غزة المعمارية "المتوحشة" الحالية هي في أنها شاهد على خلق حالة ال Peoplehood.
٢. USAID: صحن من الديدان
جاءت الأخبار هذا الاسبوع تحمل تبشيرا من البيليونير من أصل جنوب أفريقي أيلون ماسك بحل أحدى المؤسسات الامريكية الاساسية في علاقة أمريكا بالعالم وهي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID. وأستوقفني تعبير لماسك بعد تلقيه لتقارير اعدها فريقه حول الUSAID قال فيه أنه توقع أن تكون الوكالة تفاحة تعتاش عليها ديدان، فتفاجأ بأنها "صحن من الديدان" خالي تفاح.
وفتح ماسك بفعله نقاشا واسعا في الاعلام الامريكي حول الوكالة. وأفضل من يناقش هذه الامور كالعادة هو الصحفي المعروف غلين غرينوولد:
وربما وجب علينا كسودانيين فتح هذا النقاش من منظورنا كمستقبلين لدعم هذه الوكالة. على سبيل المثال كنت خلال نقاشي مع تجمع الاطباء السودانيين (سابا) قد أقترحت عليهم نشر ميزانية (سابا) بصورة علنية يمكن للمواطن السوداني الاطلاع عليها بسهولة. وبالتالي التعرف ربما على الموارد التي تلقتها (سابا) من مثل الUSAID وفي ماذا تم صرفها. فيبدوا أن الداخل الامريكي نفسه بدأ يستفيق للفساد المحتمل في هذه المنظمات ولكونها أحيانا واجهات لأنشطة قد لا تكون دائما في مصلحة الدول المستقبلة للمعونة.
تجاهل القائمون على (سابا) المقترح وحتى توقفت عن متابعة أخبار المنظمة لم يكن هنالك مرجع واضح يوضح موارد دعم المنظمة. وذلك بطبيعة الحال تهريج سيعرض المنظمة يوما لأن توصف بأنها "دودة من الديدان".
بصورة أوسع ربما يحق النقاش حول المصادر المشروعة وغير المشروعة لتمويل العمل الخيري. وربما يمكننا أن نتفق أن أي أموال تأتي من حكومات أجنبية يجب أن تتعرض لمساءلة وتحسب أكثر كثافة من غيرها. وربما وجدنا في النهاية أن جمع الأموال ديمقراطيا من الناس، سودانيين أو غير سودانيين، هو وسيلة أنجع للعمل العام.
زاد من سعادتي لما فعله ماسك، أن أحد أهم المتأثرين به هو السيدة سامانثا باور مديرة الوكالة. وسامانثا هي صاحبة نظرية "التدخل الانساني" بصفتها الذراع الجديد (الجميل) لليد الامريكية الامبرالية الطويلة. وطبعا تنسى سامانثا التدخل الانساني عندما يتعلق الامر بالفلسطينيين. هنا ورقة جيدة في نقد عقيدة سامانثا باور في التدخل الانساني.
٣. مقترح ترمب الكوميدي بحق سكان غزة و "مسيرة الدموع":
أعاد مقترح الرئيس ترمب بترحيل سكان غزة لخارج القطاع إلى الأذهان فصلا من فصول التاريخ الامريكي الاشد بؤسا. فبين العامين ١٨٣٠ و ١٨٥٠ قامت الحكومة الامريكية، مستقوية ب"قانون إزالة الهنود للعام ١٨٣٠"، بترحيل آلاف الهنود الحمر من مواطنهم الاصلية إلى غرب نهر المسيسيبي. الأمر الذي أدى إلى موت العديد منهم أثناء عمليات التهجير الجماعي وخاصة من قبائل الشيروكي التي تم تهجيرها من جورجيا إلى أوكلاهوما (حوالي ألف ميل سيرا على الاقدام في الشتاء البارد وأغلبهم كان حافي القدمين).
وما يهم التركيز عليه في هذا التاريخ الامريكي أن عملية التهجير القسري لم تتم من قبل ميليشيات مارقة على القانون أو عصابات قتل عشوائي، بل من قبل الدولة الامريكية وجيشها الرسمي (الامر الذي حافظ كذلك على الوثائق بدقة).
فلترمب في مخيلته عن "الآخر" وجدان بتاريخ طويل. وربما أحتاج العالم لفهم غياهب العقل الامريكي والتعامل ثقافيا معه بصورة فعالة حتى يتفادى المزيج القاتل للقوة الامريكية مع البساطة الوحشية أحيانا للعقل الامريكي.
على العموم، للأسف فقدت الليبرالية الامريكية كل رصيدها السياسي في السنوات الماضية، إذ تحولت لحالة مزيج بائس بين سياسات الهوية البلهاء والفساد المنهجي المؤسساتي. وبالتالي سيكون لمثل مقترح الرئيس ترمب الاخرق قدرة الوجود بدون أي معارضة داخلية تقريبا. أذا أرادت الجاليات العربية والمسلمة في الولايات المتحدة العمل بفاعلية لتفادي سياسة خارجية أمريكية كارثية في الشرق الاوسط فعليها البدء بفصل نفسها بصورة كاملة عن النخب الليبرالية الامريكية.
أرجوا أن تقوم بالأشتراك في المدونة. أرحب بتعليقات القراء في الأسفل. وأرحب كذلك بالتواصل عبر ايميل المدونة
mahmoud@zalam-blog.com
أخيرا أذكّر بأنه يمكن الأشتراك في قناة المدونة على واتساب عبر الرابط.