هذا الاسبوع في أمريكا-٩: مكة النووية، هل أطعمة أبناءنا ملوثة بمواد مسرطنة؟ .. ومقابلة مثيرة مع سام ألتمان عراب الذكاء الاصطناعي
سلسلة أسبوعية عن أمريكا كما أعرفها

أسبوع ٢٢ سبتمبر ٢٠٢٥
أقرأ مقدمة السلسلة:
١. مكة النووية: الوجه الاخر للا-انسانية العامة
اكملت يوم الاربعاء ٢٨ اغسطس ٢٠٢٥ قراءة تقرير جيد عن خطرإنتشار الأسلحة النووية على مجلة الاتلانتيك الامريكية. في قلب المقال تقع هيروشيما، كجغرافيا وكتاريخ، بصفتها في تعبير الكاتبة روس أندرسون "مكة" النووية المكرمة بالحصائل غير المعقولة للدمار الشامل.
تقع الاسلحة النووية في مركز تفكيري عموما. من الناحية النظرية يبدأ التحليل العام للوضع التاريخي و ينتهي من النقطة الاستثناء فيه. عبرها فقط يمكن مشاهدة الفلم بأكمله في لحظة واحدة واضحة. ولا تقع الاسلحة النووية في مركز تفكيري سلبا فقط -يمكن عبرها تحليل مشكلة المنظومة العولمية الرأسمالية- بل وكذلك في مركز تفكيري ايجابا: افكر دائما ان ما يسمى القانون الدولي كمشروع عام ديمقراطي سيرتكز بصورة صحيحة مستقبلا كنقطة مضادة لفكرة الاسلحة النووية. كمشروع لتفكيك خطرها. وأتخيل دائما حركة تسمي نفسها ٢٠٤٥ كاشارة للعام، الذي سيحتفل فيه العالم بمئوية هيروشيما، بصفته العام الذي يفترض ان يقول فيه العالم "كفى" لهذا الجنون التقني. يكون عمري وقتها ٥٥ عاما و يتاح لابنائي فرصة العيش في عالم يختلف نوعيا عن عالمنا اليوم… أعول كثيرا على رغبة الاباء نحو ابناءهم. هذه نقطة ينكسر فيها التفكير السينيكي (التهكمي Cynical) عادة: الانسان هو مخلوق غير اناني بصورة عميقة، ربما اكثر مما يتصور هو نفسه. لكن ذلك موضوع اخر.
فكرت كذلك و انا اقرأ المقال عن هيروشيما و ابنتها الاسلحة النووية الشاملة. وعن الاستراتيجيين و المحللين و العلماء الذين يقومون بنشرها حول العالم بافكارهم الطفولية عن الحياة والموت والانسان والاوطان والحرب والصراعات "الجيوسياسية" وأنظمة "الردع" الخ. فكرت في بلاهة احكامنا الاخلاقية عادة.
على سبيل المثال فكر فيما يحدث في غزة. يذهب عقلنا ببساطة لتحليل الامر كله عبر فكرة فاشية الاسرائيلي. تهتك الوشائج الانسانية للمجتمع الاسرائيلي "الكولينيالي المستوطن" ٍSettler Colonialist، ربما عبر استرجاع لتاريخ التوحش الغربي الامبريالي عموما و اعتبار الاسرائيليين، الذين هم بصورة كبيرة اوروبيون شرقيون، جزء منه. لكن الصورة الحقيقية أسوأ بكثير: يدافع بعض المتعطشين للدم من الصهاينة عن ما يفعله الاسرائيليون عبر عقد مقارنات بما فعله الامريكيون و حلفاءهم (الخيرون) في الحرب العالمية الثانية في دريزدن الالمانية (تم قتل ٢٥ الف إنسان ألماني خلال ثلاثة او اربعة ايام فقط من القصف في فبراير ١٩٤٥). او ما فعله الامريكيون في العراق و افغانستان بعد احداث ١١ سبتمبر. منطق الصهاينة هو: نحن فقط نفعل مثلكم لا أكثر ولا أقل. و للاسف معهم حق. امثلة العنف الغربي تجاه اخوانهم الغربيين (او الاوروبيين الشرقيين) بلا نهاية، من ممارسات النازية خلال عملية اجتياح روسيا في عملية بارباروزا، الى اعمال الابادة بين شعوب يوغوسلافيا السابقة. اعداد الضحايا في كل هذه الحالات تقارب اعداد غزة. ولو ان الامر عموما لا يجب الحكم عليه بالعدد. فمن قتل نفسا بغير نفس كانما قتل الناس جميعا (و تجاهل هذا المنطق هو سبب كل عملية ابادة).
الشاهد في الامر هو انه لا يمكن وضع الاسرائيليين في منطقة استثنائية. الدرس المستفاد من المسالة و كل المسائل المشابهة هو: كل البشر في جوهرهم لا انسانيون. اذا وضعت اي امة في محل الشعب الاسرائيلي، منحتهم قوة قاهرة امام عدو وجودي ضعيف، فهم سيتصرفون بنفس الطريقة. من اقصى شرق اليابان و ما فعلوه بالمستضعفين الصينيين و الكوريين وصولا لابناءنا في الدعم السريع عندما وقعت بعض قرى الجزيرة في يدهم. و للانسان قدرة عجيبة على تجاهل كل ثقافته لحظة العنف، الدين و الاخلاق وغيرها تذوب لحظيا مع تفجر مشاعر الخوف والكراهية. بتبريرات سريعة مبتسرة او حتى بدونها. تلك هي الحقيقة. على كل ناظر، للاسرائيليين او النازيين او الكمير روج الكبوديين او الدعم السريع.. الخ، ان ينظر لهم باعتبارهم مرايا وجودية نرى فيها انفسنا.
مهما بدى الامر مضطربا و غير معقول علي مع ذلك ان اضيف: لا تتعارض هذه الرؤية التشاؤمية للانسانية (او ما يمكن وصفه بدقة بالحالة اللا-انسانية العامة للبشر)، مع المبدأ الديمقراطي الذي اؤمن به كمبدأ مركزي، و هو مبدأ الثقة في الشعب - او الثقة في الناس عموما، والذي يعطي الديمقراطية قيمتها الاستراتيجية: بدون هذا المبدأ تتحول الديمقراطية لتهديد.
لا يمكن رؤية الخير في الانسانية الا منظور الفعل المتدخل فيها عبر الفكر. انت لا تجد المجتمع اشتراكيا او شيوعيا او ديمقراطيا، بل تصنعه. فكرة الانسانية كاساس نبيل موجود سلفا هي كذبة. وسبيل الانسان الوحيد للخير (او الحقيقة) هو ان يكون كذبة من صنع نفسه. كل ما هو موجود سلفا هو جزء من مادة فجة بلا روح. كل حقيقة هي خلق جديد ضد الحتمية.
الحتمية التي تذكرنا هيروشيما، بصورة خاصة، أن من الخير أن نقاوم منطقها.
٢. هل توجد مادة ال PFAS المسرطنة في الأطعمة الأمريكية؟ وما مصدرها؟
في حوالي العام ٢٠٢٢ قامت سلطات ولاية ميشغان بإغلاق مزرعة المواطن جيسون غروستيك للأبقار ومصادرة مواشيه. السبب؟ وجود نسب عالية من مواد ال (PFAS (Per- and polyfluoroalkyl substances أو المعروفة بصورة أكثر تسيطا بالمواد الكيميائية السرمدية Forever Chemicals. وهي طيف من المواد الكيميائية صعبة التحلل وبالتالي طويلة العمر في الطبيعة. ومنذ ظهورها عبر شركة تيفلون في ثلاثينيات القرن العشرين توسع استعمالها في مجالات عدة صناعية وفي مستحضرات التجميل والملابس غيرها.
وترتبط هذه المواد بعدد كبير جدا من السرطانات مثل سرطان الكلى والبروستات وعدد غير يسير من الامراض المزمنة من التهابات الأمعاء وأمراض الغدد. ناهيك عن تأثير هذه المواد على الخصوبة وارتباطها بالتشوهات الخلقية في حديثي الولادة. وتقدر محصلة التكلفة الصحية المتعلقة بهذه المواد على النظام الصحي الامريكي بعشرات البلايين (بحرف الباء) من الدولارات.
لهذا الأمر قامت حكومات دول مثل الصين والإتحاد الأوروبي بتقنين استعمال هذه المواد ومنعها في بعض الأحيان. وفي الولايات المتحدة توجد قوانين ضد بين أدوات الطبخ المغطاه بهذه المواد في ولاية مينيسوتا وتوجد قوانين متنوعة ضد تغليف الاطعمة بهذه المواد في ولاية كاليفورنيا وتنشط مسألة تقنين هذه المواد في بعض الولايات المحكومة عبر الحزب الديمقراطي مثل ميشيغان وماسيشيوستس وغيرها. وكانت مصادرة مزرعة المواطن جيسون جزءا من هذه العملية القانونية التي تسعى لتدارك الأمر، شاهد القصة هنا:
إلا أن ردة الفعل ضد هذه المواد المسرطنة والخطيرة على الإنسان والحيوان والبيئة جاءت ضعيفة ومتأخرة في الولايات المتحدة. لذلك لسيادة عقيدتين اجتماعيتين فاسدتين في الولايات المتحدة، الأولى هي سيادة ما يسمى بحكم الشركات عمليا Oligarchy أو Corporatocracy حيث تتمتع الشركات الأمريكية بقوة أقتصادية واجتماعية وانتخابية وسياسية لا توازيها اي قوة أخرى. وذلك بسبب سيطرة قلة من الأثرياء على كل مفاصل الاعلام العام، وتمويل نفس هؤلاء الاثرياء لاغلب الحملات الإنتخابية للسياسيين الفاسدين هيكليا. العقيدة الأخرى هي فكرة ربط منع المنتج الجديد بثبات ضرره. وبالتالي يمكن لأي شركة أن تنتج وتنشر وتروج لمنتج ما طالما لم يثبت بعد أنه مسبب للسرطان (مهما كان هذا الامر واضحا من البداية)، وتحتاج الابحاث لسنوات طويلة جدا لاثبات الضرر الذي يتوقع تأخره.
يروي الفلم Dark Waters القصة الملحمية للمحامي روبيرت بيلوت، الذي خاض معركة لسنوات طويلة ضد شركة DuPont المنتجة للمواد الكيميائية السرمدية والملوثة للبيئة في أوهايو وجنوب فيرجينيا، إنتهت بفوز قانوني باهت، لكن مؤثر على المدى الطويل، بثمن شخصي باهظ جدا. وتظهر عبر معركة بيلوت ضد DuPont حقيقة أن الشرطة عبر ابحاثها الداخلية كانت تعلم منذ السبعينات بسمية هذه المواد لكن أخفت هذه الأبحاث وأستمرت في انتاج المواد وتلويث البيئة عبر صب مخلفاتها الصناعية في أنهار ولاية جنوب فيرجينيا . كذلك يظهر عبر الفلم سيطرة الشركات الكبرى على النظام القانوني المصمم كنظام مكلف جدا على المواطن العادي بينما يمكن للشركات الكبرى جر المعارك القانونية لفترة طويلة قد تقود لإفلاس خصومها (ولا يعوض القانون الامريكي عن اتعاب المحامين حتى إن خرجت منتصرا).
الشاهد في الأمر هو حقيقة أتساع دائرة التلوث الصناعي في العصر الحديث خاصة في بلد تحكمه الشركات الكبرى مثل أمريكا. مما يتطلب على أي رب أو ربة منزل القيام بواجب البحث والتقصي خلف المواد التي تستعملها الأسرة في الطبخ وغيرها بما يضمن سلامة الأبناء والأباء. كذلك تنزع الكثير من الاسر الأمريكية لشراء مصافي التحليل الازموزي reverse osmosis water filter system والتي يضمن بعضها تنقية المياه من هذه الكيميائيات (أثبتت الكثير من التحاليل لمياه الشرب الأمريكية وجود نسب عالية من مواد ال PFAS فيها).
٣. مقابلة تاكر كارلسون مع سام ألتمان: ذكاء أصطناعي أم غباء طبيعي؟
قام الإعلامي المحافظ (المفصول قبل فترة غير طويلة من FoxNews) تاكر كارلسون بعمل مقابلة لمدة ساعة مع مدير شركة OpenAI (الشركة الرائدة في مجال الذكاء الإصطناعي والتي تقف خلف ChatGPT) سام ألتمان.
أعجبني تركيز تاكر، وهو محاور وأعلامي بارع في الحقيقة بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه، تركيزه على الجوانب الاخلاقية والفلسفية في الذكاء الإصطناعي: ما هي المرتكزات الأخلاقية لهذا العقل الجديد؟ أو ما هي المرتكزات الأخلاقية والفلسفية للعقل الانساني خلفه؟
ويحق لكل إنسان سماع إجابات مقنعة من أحد أقطاب هذه الصناعة. حيث يتوقع أن ينتشر استعمال هذه التقنية بين الطلاب والأطفال والبشر عموما. ومع الفوائد العديدة الواضحة لهذه التقنية في البحث والكتابة وغيرها إلا بعض الاشارات بالغة الخطورة بدأت في الظهور: في أبريل الماضي قام اليافع (١٦ عام) أدم راين بإنهاء حياته ثم أكتشفت اسرته أن ChatCPT قد اعانه على ذلك. حيث طلب الشاب اليافع بعض المعلومات حول أفضل الطرق لقتل نفسه وقدم جهاز الذكاء الصناعي تلك المعلومات.
ولأن مثل هذه التبعات هي مما يتوقعه المرأ من التكنولوجيا الفعالة (أتمنى أن نكون قد تعلمنا جماعيا درس التكنولوجيا الحالية بعد تجربة منصات التواصل الاجتماعي وإدمان الموبايل ألخ)، فتوقع المرء من سام ألتمان أن يأتي متحضرا لمثل هذه الأسئلة.
… إلا أنه ظهر كأبله بلا أي فكرة عن أي شيء. شاهد الحلقة:
أكبر مشكلة في التكنولوجيا الحديثة هو أنها جذرية ومتطرفة… ومصممة من قبل علماء رياضيات وحاسوب بلا أي فقه إنساني أو أجتماعي.
(يشذ عن هذه القاعدة بعض أقطاب رأسمالية التقنية الجدد مثل بيتر ثيل، حيث للرجل دراسة ورأي انساني يتجاوز حسابات الألوغاريثم والمال، إلا أن ذلك بدوره يأتي بمشاكل أخرى ربما أعمق. وهذا موضوع طويل أخر).
أرجوا أن تقوم بالأشتراك في المدونة. أرحب بتعليقات القراء في الأسفل. وأرحب كذلك بالتواصل عبر ايميل المدونة
mahmoud@zalam-blog.com
أخيرا أذكّر بأنه يمكن متابعتنا عبر:
Website: Zalam-blog.com
FB: Facebook.com/mahmoud.elmutasim
X: X.com/zalam_blog
YouTube: Youtube.com/@shawla-podcast
Telegram: T.me/mahmoud_elmutasim
WhatsApp: Whatsapp Channel