رسالة إلى السودانيين في أمريكا: في التنظيم والأهداف والتأثير -٣
تلخيص كتاب Ethnic Identity Groups And U.S. Foreign Policy
حتى لا نعيد أختراع العجلة:
رأيت أن أتوقف في هذه السلسلة لأقوم بتلخيص كتاب Ethnic Identity Groups And U.S. Foreign Policy. الكتاب منشور في العام ٢٠٠٢ كتجميع لعدد من المقالات الاكاديمية التي تناولت دور المجموعات الأثنية في التأثير على السياسة الخارجية للولايات المتحدة. والمهم في الكتاب، كما سنرى، ليس فقط تتبعه الدقيق لعدد كبير من الجاليات الأثنية بحيث يقدم عينة يمكن الاعتبار بها فقط، بل وكذلك تتبعه لتاريخ السياسة الخارجية الامريكية وعلاقتها مع الاثنيات منذ القرن التاسع عشر.
وأعتقد أنه بالنسبة لمن أستهدف عبر هذه المقالات (الجاليات السودانية في الولايات المتحدة)، ولهدف كتابة هذه المقالات (السعي نحو عمل منظم يخدم مصالح السودانيين في الولايات المتحدة ويخدم كذلك مصالح بلدنا السودان)، فإنه من المهم الالمام بمحتوى مثل هذا الكتاب ولو بصورة غير مفصلة. لأن ذلك سيجعل من التفكير في التنظيم وأسسه ووسائل عمله أكثر وضوحا. ومثلما سنتطرق في هذه السلسلة لمسألة السياسات الخارجية الامريكية تجاه السودان كما في هذا المقال، فإننا كذلك سنتطرق لمصالح السودانيين في الولايات المتحدة مثل فكرة المدرسة السودانية (أو حتى المسجد السوداني لأحياء الطرق الصوفية السودانية) وغيرها. بحيث نضمن أن لا تتجه المقالات للتركيز نحو جزء وتنسى الآخر. وذلك أيمانا مني بأن أي تنظيم لا يخدم مصالح السودانيين في أمريكا كذلك سيكون قصير نفس وسيفقد سنده وطاقته القاعدية بسرعة.
يأتي الكتاب على فصول كل فصل هو ورقة أكاديمية تتناول مجموعة أثنية معينة وتأثيرها على السياسة الخارجية الأمريكية. وسنتتبع هذه الفصول هنا مع شرح مختصر لخلاصة كل واحد منها بنفس ترتيب الكتاب:
١. الفصل الأول: المجموعات الأثنية و السياسات الخارجية للولايات المتحدة. الكاتب: توماس أمبروسيو
يمثل هذا الفصل مقدمة للكتاب. وفي يقدم توماس أمبروسيو تبريرا إن صح التعبير لضرورة تجميع ونشر مثل هذا الكتاب. وسترى في هذا الفصل أن من وجهة نظر توماس أمبروسيو أن تغيرا كبيرا في شكل ومضمون السياسة الخارجية الأمريكية قد حصل بنهاية الحرب الباردة في ١٩٩١ أو نحوها. فبعد أن تحولت الولايات المتحدة للقطب العالمي الأوحد، فقدت كذلك تركيزها الكلي على مسألة أحتواء الاتحاد السوفيتي. مما فتح المجال للتساؤل عن ما هي في الحقيقة الأهداف الأساسية للسياسة الخارجية الامريكية في عالم القطب الواحد. وهذا التحول فتح الباب للأثنيات المختلفة للعمل على ربط مصالح مواطنها الاصلية بمصالح الولايات المتحدة كنوع من التأثير على السياسة الخارجية للولايات المتحدة. الأمر الذي استدعى مثل هذا الكتاب لدراسة هذه المتغيرات.
و ستجد أن هذا التغيير الذي حدث في التسعينات لكيفية صناعة السياسة الخارجية الأمريكية قد جعل الكاتب مايكل كلوف يصفها ب "عملية الصناعة القاعدية للسياسات Grass Roots Policymaking" بينما وصفها، الباحث الاسرائيلي ذائع الصيت في مسألة دراسة "أقوام الشتات أو الجاليات Diaspora" وأثرهم على العلاقات الدولية، يوسي شاين ب "السياسة الخارجية متعددة الثقافات Multicultural Foreign Policy" والتي تشير ألى أمتداد مسألة التعددية الثقافية لعالم السياسات الخارجية.
كذلك تقدم الورقة تحليلا لعوامل قوة التنظيمات الاثنية في الولايات المتحدة كنا قد تطرقنا لها في مقالاتنا السابقة في هذه السلسلة. والمقدمة كذلك تتناول باقتضاب الأوراق المنشورة في الكتاب بتعريف مختصر لها كما هو متوقع.
٢. الفصل الثاني: الأنجلو ساكسونية و السياسات الخارجية الامريكية أثناء الحرب الاسبانية الأمريكية. الكاتب: بول ماكارتني
ربما يكون هذا أحد أهم فصول الكتاب في ما يخص سلسلة المقالات هذه تحديدا. فبالعودة لنهايات القرن التاسع عشر، وفترة الحرب الاسبانية الامريكية والتي وقعت بين أبريل و ديسمبر ١٨٩٨م، يقوم الكتاب بموقعة الأثنية الأنجلو ساكسونية نفسها كواحدة من الأثنيات التي أثرت، وما زالت تؤثر، على السياسة الخارجية الأمريكية، مما يزيل ربما عن القاريء الشعور بأنه كأقلية أثنية ليس له الحق في التأثير على سياسات هذا البلد المتنوع الثقافات.
و الأنجلو-ساكسون هي كلمة تشير إلى الأقوام من أصول جرمانية (ألمانية) التي استوطنت الجزيرة البريطانية قديما. أو من نصفهم حاليا ب (الإنجليز أو البريطانيين). ونقول الانجلو ساكسون تحديدا لتفريق الأنجليز من أقوام أخرى كانت تسكن الجزيرة البريطانية قبل مجيئهم أليها مثل مجموعات السلتكس أو الايرلنديين حاليا.
والحق يقال، الورقة هي سياحة ممتعة في عوالم تاريخ الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر بالنسبة لمحب للتاريخ مثلي. وتجد فيها نظرة دقيقة، عبر تحليل مفصل لوثائق الكونغريس الامريكي ونقاشات النواب في تلك الفترة، لحالة تكون ما عرف لاحقا بالواسب WASP، وهي كلمة تشير لمحتكري قيادة المجتمع الامريكي وقتها من الرجال البيض الانجلوساكسون البروتستانت White Anglo Saxon Protestant. هذا بخلاف أنها دراسة جيدة لحالة تكون الامبراطورية الامريكية في القرن التاسع عشر، وكيف أن الاسطول البحري الامريكي قد تمكن من هزيمة الاسبان في كل من كوبا والفلبين وبورتوريكو و غيرها من مواقع سيطرة الاسبان في أقل من عام من القتال.
لكن على العموم فما يهمنا في سياق سلسلة المقالات هذه هو أن الورقة تفصل بصورة لا ريب فيها لحالة تكون "اللوبي الاثني" اولا في شكل الواسب. فتجد النواب في الكونغريس يبنون سياسة الولايات المتحدة على التفريق الاثني بينهم كأنجلو ساكسون و بين الامراطورية الاسبانية، ويربطون في تحليلهم للفروق الحضارية بين الديمقراطية الامريكية والرجعية الاسبانية لفروق "ثقافية" مصدرها ذلك الاختلاف الاثني. ثم ستجد أن نقاشات الكونغريس بعد الحرب فيما يخص ضم الجزر المحررة إن صح التعبير قد كانت وبالاساس نقاشات حول السياسات الخارجية عبر عدسة الأثنية البيضاء الانجلوساكسونية. وهي بالمناسبة لم تكن العدسة التي حكمت علاقة الولايات المتحدة باسبانيا فقط بل بعلاقاتها مع المحيط الهاديء عموما: الصين واليابان وغيرهم من الجيران ما وراء الهاديء.
٣. الفصل الثالث: أذى أبيض: دعم الولايات المتحدة لنظام الأبرتهايد، ١٩٤٨-١٩٦١م. الكاتبة: كاثرين سكوت
كمواصلة لدراسة الاثنية البيضاء، بوصفها، هي الأخرى، جماعة من ضمن جماعات، وليس لها، نظريا على الاقل، موقع مفضل على البقية. قدمت كاتبة هذه الورقة دراسة تحليلية مفصلة لموقع الولايات المتحدة الداعم للأبارتهايد الجنوب أفريقي بين العامين ١٩٤٨ عام وصول الحزب القومي العنصري للسلطة في جنوب أفريقيا والعام ١٩٦١ عندما توقفت الولايات المتحدة عن دعم الابارتهايد خاصة بعد مذبحة شابرفيل المعروفة في ١٩٦٠.
وتدرس الباحثة هذه الحالة كحالة تدخل أثنية بيضاء في السياسة الخارجية. حيث وجد السياسي الأبيض من الجنوب وقتها نفسه في حالة تطابق ضمني مع العنصري الأبيض في جنوب أفريقيا. حيث ستلاحظ مثلا أن قوانين الفصل العنصري المعروفة ب "جيم كرو" في الولايات المتحدة كانت هي الاخرى بدورها استمرت حتى العام ١٩٦٥. هذه الحالة من "التضامن" إن صح التعبير بين العنصريين البيض في الجنوب والعنصريين الجنوب أفريقيين تدرسها الباحثة كحالة من حالات عمل الاثنية في السياسة الخارجية في الولايات المتحدة. وستجد الاثنية نفسها مرتبطة كذلك مع هموم جيواستراتيجية امريكية أخرى. فكان نظام الفصل العنصري نفسه أقتبس مثلا تعليقا للسكرتير العام (وزير الخارجية الامريكي) في عهد ايزنهاور، السياسي الامركي المعروف وأحد الصقور ضد الشيوعية، جون فوستر دولس لتبرير نظام الفصل العنصري بصفته نظاما ضد-شيوعي في افريقيا (صفحة ٥٩ في الكتاب ببعض التصرف للتوضيح):
Furthermore, after being in power for two years, the NP (South Africa National Party) stressed the links between race and "communistic intellectual poison" that thrived in sites such as mixed racial residential areas. In mid-1953, an NP MP (Member of Parliament) approvingly quoted John Foster Dulles on the threat of communism in Africa: "Throughout Africa the communists are trying to arouse the Native peoples into revolt against the Western Europeans who still have political control of most of Africa. If there should be trouble there, that would break the contact between Europe and Africa. Africa being a large [supplier] of raw materials for Europe."
فتجد في هذا الاقتباس، فوستر دولس (يسمى بأسمه مطار واشنطن الشهير)، المعادي للشيوعية، لكن كذلك من ناحية أثنية بيضاء. وهو الالتقاء الذي استثمر فيه نظام الفصل العنصري كثيرا.
٤. الفصل الرابع: الهوية، الأفارقة-الامريكيون، والسياسات الخارجية للولايات المتحدة: أختلاف ردود الفعل بين أبارتهايد جنوب أفريقيا والجينوسايد الرواندي. الكاتبان: فران سكوت وعبد الله عثمان
يدرس الباحثان في هذه الورقة بصورة جيدة الفروق، الغريبة ربما، في ردة فعل الأفارقة الامريكيين في الولايات المتحدة، على ظاهرتين تخصان القارة السوداء: الأبارتهايد والجينوسايد. وتكمن غرابة أختلاف ردات الفعل في أن الجينوسايد في رواندا كان قد تزامن تقريبا مع نهاية الأبارتهايد وانتصار نيلسون مانديلا في أنتخابات جنوب أفريقيا.
والبحث هو دراسة بالغة الأهمية بالنسبة لنا كسودانيين (وكأفارقة) في فهم التاريخ الحديث لعلاقة الأفارقة الامريكيين مع القارة الأفريقية.
فتجد أن الأفارقة الأمريكيين كانوا شديدي العداء مع نظام الأبارتهايد. وتزامن نضالهم الباسل لمصلحة الحقوق المدنية بقيادة القس مارتن لوثر كينغ، مع نضال الأفارقة في جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري. ونشأت في سبيل تقوية العلاقات بين الأفارقة في أمريكا وجنوب أفريقيا منظمات ضغط على السياسة الخارجية الامريكية أهمها TransAfrica والتي نشات عبر مجهودات مجموعة النواب السود في الكونغريس في السبعينات. وأثمر جهد الأفارقة الأمريكيين في النهاية، حيث أنقلبت تدريجيا سياسات الولايات المتحدة تجاه الأبارتهايد من التأييد للعداء بل وحصاره أقتصاديا في النهاية.
في المقابل، كانت ردة فعل المجتمع الأفريقي الأمريكي على الجينوسايد الرواندي ضعيفة نسبيا، ومتأخرة. الامر الذي تناقشه الورقة بأستفاضة، حيث تحاول توضيح الملابسات التاريخية لذلك التأخر والفتور والإجابة على سؤال السبب. وتشير الورقة عموما لتساؤل بشأن رؤية الأفارقة الأمريكيين للقارة وانها تأتي عبر عدسة وضعهم الذاتي كفئة تاريخية أمريكية: فتجدهم شديدي العداء لنظام الفصل العنصري لأنه يماثل تجربتهم مع الأضطهاد الأبيض في أمريكا، بينما ربما يمثل عنف السود ضد السود في رواندا ظاهرة غريبة جذريا عليهم كأمريكيين سود.
ويهمني في هذا السياق التركيز على النقطة التالية: في أطار محاولات التنظيم والعمل للتأثير على السياسات الخارجية الأمريكية أيجابا على بلدنا وعلى أفريقيا بشكل عام، وجب التفريق معرفيا بصورة واضحة بين الأفارقة القاريين Continental Africans و نعني بهم المهاجرون حديثا ولهم روابط عضوية بالقارة (حملة جنسيتين، مصالح مادية مباشرة، ارتباط ثقافي مباشر ألخ) وبين الأفارقة الأمريكيين ِAfrican American ونعني بهم الأفارقة الذين قدموا قبل قرون عدة إلى القارة والكاريبي وغيرها في الجزء الغربي من العالم ولهم أرتباط ثقافي وأثني عام بالقارة لكن ليس بصورة عضوية.
وهذا التفريق ليس "قيميا" فليس هنالك أي أفضلية لمجموعة على الأخرى. وكلها في النهاية تجارب أفريقية ثرية ومتنوعة. لكنه تفريق عملي في مجال التنظيم وعقد التحالفات وجب وضعها في الاعتبار. وربما عانت عملية المناصرة والضغط من أجل أفريقيا تاريخيا من نوع أو آخر من الذوبان في داخل السياسات المحلية للأمريكيين السود أفقدها الوضوح النظري والقدرة على الأستدامة مثلما حصل مع منظمة بدأت فتية ثم خبؤ ألقها مثل ال TransAfrica.
نقف هنا ونأتي في الحلقة القادمة إن شاء الله لنكمل تلخيص المقالات الستة المتبقية.
أرجوا أن تقوم بالأشتراك في المدونة. أرحب بتعليقات القراء في الأسفل. وأرحب كذلك بالتواصل عبر ايميل المدونة
mahmoud@zalam-blog.com
أخيرا أذكّر بأنه يمكن الأشتراك في قناة المدونة على واتساب عبر الرابط.