ما هو موقف "ثورة ديسمبر" من الحرب الحالية في السودان: ماف ميليشيا بتحكم دولة
مقالة في تاريخ ومستقبل ديسمبر وابنائها
أكبر عقبة أمام تنظيم المجتمع السوداني بصورة صلبة ورصينة، بحيث يكون قادرا على مقاومة المشروع الإماراتي الإرهابي في السودان، هو استمرار تذبذب قوى ثورة ديسمبر القاعدية في موقفها تجاه الجيش الوطني.
وكان من تبعات ذلك أن أصبحت الحركة الإسلامية، والحركة السودانية المحافظة حولها، هي القوة الرئيسية المساندة للجيش على المستوى الإجتماعي (المنظمة ولها أيديولوجيا، ولا نقول القوى الرئيسية مطلقا).
ولهذا الأمر مشاكل عديدة، مع احترامنا لمجهودات الإسلاميين الصادقين عموما، أكبرها هو نزعتهم التلقائية لاستعمال الحرب كمنصة للتشفي من ثورة ديسمبر التي يفهمون، بتفكير سطحي، أنها قامت ضدهم مطلقا. هذه النزعة لعداء ثورة ديسمبر أثناء الحرب تكثف بدورها من مشكلة الجيش السوداني مع قوى ثورة ديسمبر، وتضعف المجتمع السوداني ككل، في خلال هجمة خارجية وجودية علينا كسودانيين. ومن المشاكل الأخرى للقوى الإسلامية أنها بصورة عامة قوى منهكة عمرها متقدم ولها تبعات ثقيلة على مستوى المنطقة والعالم. وفي حين أن كل ذلك لا يمنع حقهم، كقوى سودانية أصيلة، في الوجود، لكنه، مع ذلك، يجعل التساؤل عن، والسعي إلى، تكوين تحالف أعرض، مسألة أساسية ومشروعة.
ما هي ثورة ديسمبر؟
للأجيال الأحدث. والمعاصرين ممن غبشت الأيام ذاكرتهم، وجبت الإجابة:
قامت ثورة ديسمبر في ٢٠١٨ بمظاهرات ضد الغلاء، وداخل سعي شعبي عام أستمر منذ فشل نيفاشا (٢٠٠٥-٢٠١١) في تحقيق المرجو منها من انتقال لنظام حكم ديمقراطي تعددي، سعي تمثل في عدد من الاحتجاجات الواسعة كان أكبرها في سبتمبر ٢٠١٣ والتي تم قمعها وحشيا (وعبر قوات الدعم السريع التي كانت قدمت للخرطوم لأول مرة وقتها).
إنطلقت ديسمبر في ٢٠١٨ ضد نظام حكم شمولي موغل في الأرهاب والقمع بقيادة عمر البشير. وكان المجتمع السوداني بكل اتجاهاته قد أجمع على ضرورة رحيل النظام، بما في ذلك، ليس فقط طبقات وفصائل الإسلاميين التي انشقت عنه (المؤتمر الشعبي بقيادة مؤسس الحركة حسن الترابي، مجموعة الإصلاح الآن بقيادة غازي صلاح الدين، مجموعة الإحياء والتجديد، مجموعة سائحون ألخ)، بل وكذلك الكثير من العناصر داخل النظام مثل أولئك الذين رتبوا لما عرف لاحقا ب"حوار أو خطاب الوثبة" وهو محاولة جاءت ضعيفة وركيكة لتكرار تجربة نيفاشا في الإنتقال.
في تلك الوضعية جاءت ثورة ديسمبر كثورة سودانية عامة شاركت فيها كل الفصائل والتوجهات السياسية بما في ذلك الإسلاميون. ولذلك شواهد عديدة إلا أن أنصعها هو تزيين ثورة ديسمبر بإسم الشهيد أحمد الخير كأحد أرفع شهداءها. ناهيك عن مساهمات الكثير من القيادات الشابة للإسلاميين وتضحياتهم خلال شهور الثورة الستة وعلى رأسهم القيادي المعروف هشام الشواني وما لاقاه مما هو مشهود وفادح.
على صعيد آخر، فإنه مهما يكن من أمر، فإن الثورة كانت قد قامت ضد نظام حكم اسلامي. وبالتالي فإنها جاءت بشعارات وتيارات قاعدية أخرى شديدة العداء للإسلاميين. وما كان ذلك مما يصعب حله في داخل حوار وطني اجتماعي عام وتدافع، إلا أن المشكلة الأساسية في العملية الثورية كانت تحالف الجهات القاعدية (النقابات ولجان المقاومة، بقيادة تجمع المهنيين السودانيين) مع التحالف السياسي المعارض للإسلاميين وبالتالي وضع الثورة في مسار عداء فاجر للإسلاميين شمل من كانوا في صفها بلا تمييز.
فكانت الثورة، بعد انطلاقها بفترة قليلة، قد وجدت في التحالف النقابي الشاب وقتها - تجمع المهنيين (يتكون بصورة رئيسية من تحالف نقابات الأطباء والمحامين والمعلمين، وتركيبات أولية أخرى)، قيادة ذات مصداقية وبلا رصيد سلبي يفرق السودانيين، فإلتفت حولها. وفي ذلك إشارة لعدم ثقة السودانيين في الطبقة السياسية التي كانت وقتها تعمل تحت منصة تحالف قوى الإجماع الوطني وتحالف نداء السودان.
وتحت قيادة تجمع المهنيين السودانيين انتظمت التظاهرات المطالبة بإسقاط النظام لأسابيع وشهور عدة ثم انتظم ميدان الاعتصام في الخرطوم (وولايات أخرى) أمام مبنى قيادة الجيش للمطالبة برحيل البشير.
في هذه الأثناء كانت الطبقة السياسية السودانية المعارضة تدبر لتحالف تهيمن عبره على الثورة السودانية فجاء "إعلان الحرية والتغيير" في يناير ٢٠١٩، بصفته المنصة النظرية لتحالف القيادات السياسية (تحالف قوى الإجماع الوطني ونداء السودان) مع تجمع المهنيين في داخل تحالف سياسي اجتماعي أوسع سمي لاحقا ب"قوى الحرية والتغيير". وحدث هذا التحالف، الخطأ الإستراتيجي، وسط اعتراضات واسعة ليس فقط من الشق الإسلامي/المحافظ داخل الثورة (قالت الكثير من الكتل الاسلامية أنه لم يسمح لها التوقيع على الإعلان)، لكن كذلك من قبل الناشطين وقوى الثورة على الأرض. وسبب الإعتراض كان سوء ظن الناس عموما في الطبقة السياسية السودانية، والذي بات الآن مفسرا.
على سبيل المثال كنت كتبت في يونيو ٢٠١٩ (على حسابي على فيسبوك وقتها) التالي:
"و الحقيقة هي بدون العملية دي فقحت حتجهض الثورة تماما كما هو واضح.
خلونا دايما نتذكر انو تجمع المهنيين هو القاد الثورة خلال شهور طويلة بكفاءة و فعالية، و الحاجة دي كانت لأنو الفكرة خلف التجمع صحيحة و نحن امنا بيها و أقنعتنا بيها و حركت الطاقات جماعيا، و ليس لأنو كادر الاحزاب ألفي التجمع كان كادر ذو قوى خارقة. و خلونا نتذكر كيف الاحزاب ما قدرت تكتب تصورات واضحة و ما قدرت تقود التفاوض لا بفعالية و لا وضوح، يعني دورها الصغير الساهل غلبها تعمله بل و هدمت بخلافات ما مبررة و بتسويف و عنجهية مناخ الوحدة الوطنية و القوة ألكان فرضه التجمع. لو فهمنا دي بنقدر نفهم الحجم الحقيقي بتاع أحزابنا. و من هنا بنقدر نفهم انو نحن، المجتمع المدني و النشطاء و السياسيين المتحالفين معاهو بصورة واضحة، كنا و مازلنا القوة الأكبر."
قحت وديسمبر: زواج قسري
مما في الأعلى سيكون واضحا أن الإدعاء بأن ثورة ديسمبر = قحت، هو أدعاء له مصدران منطقيان:
١. أحزاب الحرية والتغيير نفسها: وذلك لتلميع صورتها كقيادة شرعية لثورة شعبية عارمة.
٢. الكيزان (خاصة عناصر المؤتمر الوطني الذين خلعتهم الثورة): لتشويه صورة الثورة في نفوس السودانيين الذين كرهوا قحت والطبقة السياسية عموما.
على الصعيد الآخر فإن الحقيقة هي أن قحت تسلقت فوق ظهر ثورة ديسمبر لسببين:
١. ضعف البناء السياسي المؤسسي السوداني نتيجة القمع المنهجي لنظام عمر البشير، ونتيجة عزوف الشباب والناشطين عن العمل السياسي المنظم:
حدثت الثورة في ظل ضعف شديد في التنظيم السياسي للسودانيين جعل أحزاب الحرية والتغيير هي المكون الوحيد المتاح لملء الفراغ. ويدل على أن قحت لم تكن قيادة عضوية ومنسجمة مع القواعد الثورية (لجان المقاومة) أن هذه القواعد انفضت من حول قحت بسرعة قياسية إلى أن وصلت خلال أقل من عام من قيادة قحت للتظاهر ضدها تحت شعارات دامية مثل "بي كم بي كم قحاتة باعوا الدم".
٢. قيام الثورة في ظل مناخ كاره لتجربة الإسلاميين في الحكم بعد ٣٠ عام من الفشل المريع:
هذا المناخ جعل الناس يبحثون في أكثر من منعطف عن الفاعل السياسي الأكثر عداء للإنقاذ، في مقابل الفاعل الأكثر فعالية أو أقل استقطابا إلخ. وإذا كان هنالك أمر تجيده الطبقة السياسية المعارضة عندنا فهو كره الكيزان، وبلا حدود.
ديسمبر والدعم السريع:
يصح القول أن ما بين ثورة ديسمبر والدعم السريع… ما صنع الحداد. مجازا. وكواقع حاليا.
فبينما، على سبيل المثال، كانت الحركة الإسلامية السودانية في الحكم تقنن للدعم السريع عبر برلمانها في ٢٠١٧، بعد أن كان نظام عمر البشير قد حول الدعم السريع لقوة نظامية في ٢٠١٣، كانت هذه القوات نفسها تقتل المتظاهرين في سبتمبر ٢٠١٣ (وإقرأ هنا كذلك)، ثم قتلت متظاهري ديسمبر في ميدان الإعتصام وعلى رؤوس الأشهاد كما في هذا الفيديو:
وقابلت ثورة ديسمبر، منذ البداية، ميليشيا الدعم السريع والمشروع الإماراتي بعداء صار مبذول في العلن وبلا تراجع رغم التهديدات الإرهابية التي مارستها الميليشيا ضد الناشطين.
وارهاب الدعم السريع وولوغه في دماء لجان المقاومة معروف. فعلى سبيل المثال في ديسمبر ٢٠٢٠ قامت قوى تابعة للدعم السريع باختطاف الشهيد بهاء الدين نوري من مقهى في حي الكلاكلة وتعذيبه حتى الموت. ولاحقا أصبح واضحا أن الكتيبة كانت تتبع لإستخبارات الدعم السريع. (إقرأ هنا). وذنب بهاء الدين نوري كان تحديدا ضلوعه في نشاط لجان المقاومة ضد مشروع تمكين الدعم السريع في السودان لصالح الإمارات.
وكانت ثورة ديسمبر، كأي ثورة وطنية عامة، شذرا ضد مشروع الاستعمار الإماراتي الجديد. وكل عملائه. الأمر الذي وتر علاقة الثورة بأحزاب وضح مع الزمن ارتهانها للإمارات، وجعل التناقض مع الدعم السريع في مستوى التناقض الرئيسي.
ديسمبر والحرب الحالية:
قامت الحرب الحالية على أنقاض ثورة ديسمبر. بالفعل. فكانت الثورة الطامحة لحكم ديمقراطي عادل قد عانت من مشاكل هيكلية (ضعف الطبقة السياسية الثورية، عدم وجود طرح هيكلي لمشكلة العسكر في السلطة)، جيوسياسية (المشروع الإماراتي، وموقف إدارة الرئيس الأمريكي ترمب من السودان الذي جاء مغبشا بالمطامع الإسرائيلية في المنطقة)، وثقافية وفلسفية (عدم وضوح التنظير في مسألة الديمقراطية، التنظيم الاجتماعي، الوحدة الوطنية، الموقف من الإسلاميين إلخ).
وتوالت بالتالي النوازل على ثورة ديسمبر بداية بصعود قحت/حمدوك لمنصة القيادة، مرورا بالانقسام الوطني الحاد على أسس عقدية، وبنشاط الثورة المضادة الفعال، و انتهاءا بانقلاب أكتوبر ٢٠٢١ الذي أوصل البلاد إلى حدود الأزمة الوجودية.
وكانت كل هذه المنعرجات قد أضعفت التنظيم الثوري. إن كان في شكل النقابات (قامت في حدود علمي أنتخابات واحدة خجولة للتنظيم النقابي للأطباء، بينما تعطلت عملية البناء التنظيمي لكل النقابات الأخرى في ظل قيادة قحت التي كانت بصورة أو أخرى تعادي تقوية القواعد)، أو لجان المقاومة ( تحولت بدون قيادة فكرية أو سياسية لآلة احتجاج لا نهائي بلا تصور كلي أو قدرة على حمل المشروع الديمقراطي السوداني إلى نهاياته. أقرأ هنا نقدي لهذه الجزئية ومحاولة لتأسيس فكرة المشروع الديمقراطي بصورة أكثر رصانة).
ثم كانت قيام الحرب لحظة تفريق حدي لا يقبل الوقوف في الوسط. فأنت إما في صف الدعم السريع أو في صف الجيش السوداني. ووجدت قوى ثورة ديسمبر نفسها، أمام هذا الخيار، في وضع عصيب. فهي قوى نشأت على عداء جذري مع الجيش السوداني الحاكم الدائم منذ الإستقلال عبر القمع.
هذه الحالة خلخلت قدرة الثوريين على الحركة والتفكير معا. وفتحت المجال لموقف الحياد الكاذب الذي أطلقته قوى الحرية والتغيير، وهي حليف رئيس داخل المشروع الإماراتي في السودان، ليتسيد الموقف. خاصة أن ما يعرف بتيار الجذريين، وهو تيار يسار جزافي متطرف حول الحزب الشيوعي السوداني، قد أستعمل كذلك لغة الحياد ولا للحرب وزاد الأمور تغبيشا بصورة أقل ما أن توصف به هو كلمة "جبانة".
المستقبل:
إن تشخيص الماضي بدقة لن يمنعنا من رؤية مستقبل أفضل للحركة السياسية السودانية التي بعثتها ديسمبر.
فمنذ بداية الحرب اصطف الكثير من الديسمبريين في صف الجيش، و بوعي مفارق لبعض الداعين (أو الراغبين في أو الحالمين ب) لعودة شمولية الجيش بعد الحرب. وعلى رأس هؤلاء أستاذنا عبد اللهي علي ابراهيم معلم الأجيال ورموز ديسمبرية مثل الأستاذ محمد جلال هاشم وغيرهم.
على هذا الاصطفاف -الواعي بطبيعة الحرب الحالية، كحرب استعمارية أجنبية ضد الأمة السودانية، تقودها ميليشيا تمارس الابادة الجماعية- ان يستمر في التجذر وعبر المنصة الروحية لثورة ديسمبر نفسها. (وأكتوبر وأبريل وكل تاريخ نضال السودانيين من أجل الديمقراطية والحكم المستقل العادل)، وليس عبر المنصة الرجعية لأنصار حكم العسكر.
نحن إذن ندعوا لإنفصال داخل المعسكر الداعم للجيش. إنفصال في مستوى اللغة، أسلوب العمل، والتطلع. لا يمنع من التحالف الواقعي مع كل القوى السودانية الساعية لهزيمة الدعم السريع الأرهابي، أيا كانت.
وعبر هذه المفاصلة نسعى لتقوية التيار الوطني، أو تيار السيادة الوطنية، ببعث أهم عناصر تكون الحركة السياسية السودانية وهي التنظيمات القاعدية الحرة، إن كان في داخل السودان أو خارجه، على طريقة وتجربة ديسمبر.
ولأن تاريخ السودان لم يبدأ في أبريل ٢٠٢٣ كما يحاول البعض تصويره. فعلى القوى الاجتماعية الحية التحضير كذلك لما بعد الحرب. فبدون تحضير المشروع الوطني، على اسس ديمقراطية اجتماعية سليمة، وتنظيمات رصينة، لن تكون هذه الحرب الحرب الأخيرة. لكن ربما تكون الحرب الأخيرة بين جيشين فقط.
حرية سلام وعدالة. والثورة خيار الشعب
ماف ميليشيا بتحكم دولة
العسكر للثكنات، والجنجويد ينحل
المجد للشهداء، في وقت السلم، وفرض الحرب. شهداء الشارع والبندقية. عليهم الرحمة أجمعين.






