

اسبوع ١٩ يناير ٢٠٢٥
أقرأ مقدمة السلسلة:
١. فلم "بوب ديلان":
حتى وأنا أكتب هذه الحروف أجد نفسي مازلت لا أتذكر اسم الفلم. وأجد هذا الامر طريفا وحقيقيا في نفس الوقت: بعد شرائي لتذكرة الفلم "أونلاين" توجهت لسينما FilmScene في مدينة أيوا سيتي رفقة صديق. وكان الموظف يوجه الناس سائلا "أي فلم تشاهدون؟" ثم يدلهم على القاعة المعينة. وكان قد سأل شابا وفتاة أمامنا هذا السؤال فأجابا: "فلم بوب ديلان" بعد أن ترددا قليلا وظهر أنهما لا يعرفان عنوان الفلم. وجاء الدور علينا ففعلنا نفس الشيء "فلم بوب ديلان" وضحكنا. وخطوت نحو الصالة وانا أفكر في هذه ال Star Power العابرة للأجيال. وتحولت قاعة السينما تلقائيا لمساحة روحية حميمة. نحن جلسنا نتذكر جماعيا، نتذكر ونعرف ما سنتذكره في نفس الوقت. البايوغرافيا هي فن يعتمد على النوستالجيا لما لم تعرفه بعد. أن تتذكر المستقبل.
٢. من هو بوب ديلان:
قبل أن نتكلم عن الفلم. دعنا نحاول عبر أغنيتين أن نتعرف على بوب ديلان سويا.
The Times They Are A-Changing
كان بوب ديلان المولود في ١٩٤١ قد أكمل حوالي ٢٣ ربيعا عندما قادت الأغنية بارعة الشهرة ألبومه الثالث. وفي ١٩٦٣ كان المجتمع الامريكي في حال من الرجة. رجة الحقوق المدنية للسود. ورجة الحرب الفيتنامية. وكان بوب ديلان قد قرر واعيا أن عليه أن يكتب "نشيدا" لهذا العصر. وكانت الأغنية بالفعل، ليست معبرة فقط عن روح عصرها، بل و كذلك، خالقة له:
Come gather 'round people
Wherever you roam
And admit that the waters
Around you have grown
And accept it that soon
You'll be drenched to the bone
If your time to you is worth savin'
And you better start swimmin'
Or you'll sink like a stone
For the times they are a-changin'
الأغنية هي تمثل بارع لموهبة بوب ديلان المطلقة في استعمال شعر ال"بالاد" Ballad الشائع بين مغني الموسيقى الشعبية الامريكية Folk Music والتي حولها بوب ديلان بمثل هذه الاغنية من الهامش للمركز فيما يخص تاريخ الموسيقى الامريكية في القرن العشرين. وأبيات البالاد البوب ديلانية هي مبالغة في البساطة. تكاد تصلح لأن تكون ترانيم تغنى لطفل لينام. وهذه القدرة العجيبة للمغني الشاب، لأن يجمع روح العصر في أبيات سهلة بسيطة ستكون محددا دائما لبدايات بوب ديلان.
وترى في هذه الابيات أسلوب الحكاية في قصائد ال"بالاد" في أبهى صوره. فهو يطلب من المستمعين أن يجتمعوا حوله ثم يكلمهم عن ما يشبه قصة الطوفان الإنجيلية: نحن بصدد أيام الطوفان، المياه تتوسع حولكم، فإما أن تتعملوا السباحة أو تستسلموا للغرق. وهذا تصور شديد التفاؤل بالتغيير، فهو لا يتذمر من القديم بل يبشر بحتمية الجديد بل ويسخر من مقاوميه ويرأف بهم.
ثم تأتي الهارمونيكا. وهارمونيكا بوب ديلان هي ليست جزءا من شعره فقط بل ومن روحه. تفهم عبر الهارمونيكا توجه أو روح الاغنية بأكملها. وهارمونيكا بوب ديلان في هذه الأغنية هي هارمونيكا حاكية فاصلة. تدعوا المستمتع لتكملة القصة. لأن يتابعها وتزيد مع كل فاصل كأنما هي تحركات رؤوس الناس تشير لأنهم فهموا المقصد.
Come writers and critics
Who prophesize with your pen
And keep your eyes wide
The chance won't come again
And don't speak too soon
For the wheel's still in spin
And there's no tellin' who
That it's namin'
For the loser now
Will be later to win
For the times they are a-changin'
ينتقل بوب ديلان في هذه الجزئية لما يشرح تفاؤله. فهوا يتكلم من موقع غريب. هو يتكلم من موقع الاستاذية تجاه "الكتاب، والنقاد". أولئك الذين "يتنبؤون" عبر أقلامهم بالمستقبل. ويحذرهم بأن عجلة المقامرة المستقبلية ما تزال تدور. ومن يدري؟ من يدري؟ فربما يصبح الرابح الآن خاسرا والخاسر رابحا. هذه الرؤية للمستقبل كمجال مفتوح. يمكن فيه الشيء وضده. هي مصدر تفاؤل بوب ديلان الشاب. عندما يقول أحدنا "كل شيء ممكن" فإن نبرة التفاؤل في العبارة لا تكتمل بغير الفراغ المطلق في المستقبل. عندما ندعوا للديمقراطية وهي الحرية الجماعية للشعوب فإننا نرغب في تفاؤل الانفتاح المطلق في التاريخ والمستقبل. وليس ضمان الخير. يضمن استالين مثلا الخير. أما الديمقراطية فهي حالة شعرية، خلق وراء خلق.
فلن يستغرب القاريء من افتتان هيغلي مثلي بمثل هذا المقطع. فأنا مثل بوب ديلان محب للتاريخ والمستقبل، محب مقامر.
Come senators, congressmen
Please heed the call
Don't stand in the doorway
Don't block up the hall
For he that gets hurt
Will be he who has stalled
The battle outside ragin'
Will soon shake your windows
And rattle your walls
For the times they are a-changin'
بعد الاستاذية تجاه قادة الرأي. ينتقل بوب ديلان، بتواضع، نحو قادة السياسة. فيخبر ممثلي الشعب أن عليهم أن لا يقفوا في طريق التغيير. ويشير بوب ديلان، في الغالب، لحادثة وقوف حاكم ولاية ألاباما جورج والاس في ١٩٦٣ أمام مدخل جامعة ألاباما يمنع دخول طالبين سود لها. ومثل الحاكم والاس هو كاريكاتور مثالي للتاريخ. ويحذر بوب ديلان حراس الابواب، أو كلاب الحراسة إن صح التعبير، من أن للتغير عنف، ف "المعركة في الخارج محتدمة وتغلي"، وقد يكون لهؤلاء الحراس نصيب من الألم لم يتحسبوا له. وتهتز الجدران ويفر جمع الطاغية!
Come mothers and fathers
Throughout the land
And don't criticize
What you can't understand
Your sons and your daughters
Are beyond your command
Your old road is rapidly agin'
Please get out of the new one
If you can't lend your hand
For the times they are a-changin'
The line it is drawn
The curse it is cast
The slow one now
Will later be fast
As the present now
Will later be past
The order is rapidly fadin'
And the first one now
Will later be last
For the times they are a-changin'
نهاية الأغنية هي في نفس الوقت قمة "التناقض" ربما في بدايات بوب ديلان. وهي تعبير عن تناقض معتاد عندي في السياسة: جدل المحافظة والتقدم. فبوب ديلان يستعمل "شكلا" Form محافظا بصورة جذرية. هو موسيقى الفولك Folk. ولكنه كما يتضح من الأبيات يتكلم مع مؤسسات محافظة أخرى (الأباء والامهات) بمضمون Content تقدمي. وبلا مواربة. فهو يخبرهم أن الأجيال القادمة خرجت عن الطوع، وأن عليهم أن "يخلوا الطريق الجديد" إن لم يرغبوا في الركوب في قطار التقدم. هذا الجدل بين الشكل والمضمون هو في العادة معول التغير. فأشد الناس محافظة بمعنى محبة للمجتمع وإنتماء له ولروحه ومبدئه، هم في نفس الوقت أكثر الناس تقدما.
تجد مثل هذا الجدل عندنا في أشعار محمد عبد الحي. فهو، محمد عبد الحي، أكثرنا محبة لنا، رغبة في المحافظة على روحنا وسنارنا وتاريخنا، وهو بالتالي في نفس الوقت أحد الآباء الروحيين لكل التقدميين السودانيين الحقيقيين. أنت لا ترغب في التقدم بغير محبة جذرية للشعب. محبة تجعلك في البدء محافظا. فسيجدني القاريء أكتب عن الشيوعية الافريقية بصفتها فكرة محافظة جذريا. وقد يبدوا الأمر مضحكا للعقل الضحل. وربما لشفاء مثل هذه العقول غير الجدلية يوجد مثل بوب ديلان.
تنتهي الأغنية مع ذلك بهارمونيكا غير مقنعة. أو غير مقتنعة. وكانت بدايات بوب ديلان الجذرية دائما في تعارض مع رغباته الآخرى خارجها. فالشباب حالة من التفجر، وفي حالة بوب ديلان، هو حالة من الوضوح والتغبييش معا. أعصار ربما أصاب الشاب المسكين أكثر من غيره.
Girl from the North Country
أنتج بوب ديلان خلال مسيرة غزيرة ممتدة عشرات الالبومات. ربما بلغ العدد ٤٤ ألبوما قرأت في مكان ما. وتنقل بوب ديلان في مسيرته الفنية بين أنواع شتى من الموسيقى الامريكية. إلا أنني لا أعرف ربما سوى بوب ديلان في ١٩٦٣ وألبومه The Freewheelin’ Bob Dylan. وهو ألبومه الثاني. والألبوم الأول من حيث أنه أحتوى موسيقى بوب ديلان الخاصة وليس مجرد Covers.
والأغنية "الفتاة من الريف الشمالي" هي حالة واضحة من التقاء اكتمال التقنية الموسيقية عند بوب ديلان مع مصدر الهامه كفنان. وبالتالي بعثه ملهما برسالة واضحة.
أو النسخة الرسمية:
If you're traveling in the north country fair
Where the winds hit heavy on the borderline
Remember me to one who lives there
For she once was a true love of mine
الإشارة للريف الشمالي تجمع بدايتين لبوب ديلان. فهو ولد في دولوث في شمال مينيسوتا ونشأ فيها قبل أن يرحل عنها بصورة كاملة في شبابه الباكر. ولم ترحل هي عنه بالطبع. ودولوث التي زرتها في حوالي العام ٢٠٢١ إن لم تخني الذاكرة، هي مدينة في أقصى الشمال الامريكي، شديدة البرودة، من نوع المناطق في الشمال الامريكي حيث المناخ القاسي يكاد ينطبع في الناس فيطفي غلافا صارما باردا عليهم رغم لطفهم الأخلاقي الكندي. والريف الشمالي، يقول البعض، يشير كذلك لبدايات بوب ديلان الفنية عندما تعرف على موسيقى الفولك Folk في رحلته للريف الانجليزي في ١٩٦٢.
وتختلط في تعبيرات بوب ديلان، النوستالجيا للمكان، مع النوستالجيا للمحبوبة. والمحبوبة كما عند خليل فرح، هي حالة جذرية، في الشباب الباكر، من حالات ما يسمى ب "الانطلاق" إن صحت الترجمة للكلمة Initiation. فهي تتحول بين مجالين: الرمزي (عازة الوطن) والحقيقي (عازة الجسد) بدون أن تتحرك فعلا. هي الذات والموضوع في نفس الوقت. والمحبوبة هي تجسد لذلك "الغير موجود" فهي بالتعريف تشكيل خيالي يحتل موقعا، كبداية، أو كرمز. فلم تتوقف حياة شخص بالفعل من أجل محبوبة ما. لكن مع ذلك تبدأ حيوات عبرها.
فأنت إن كنت مسافرا عبر الشمال البارد، يخبرك بوب ديلان، فعليك أن تذكر محبوبته به. هذه الرسالة الغريبة: عليكي أن تتذكريني. تشير ربما لجذرية "الاخروية" في علاقة الحب التي هي علاقة مستحيلة. في علاقة الحب ترغب في أن "يتذكرك" الآخر. رغم انها رغبة بلهاء بالتعريف. ويستحيل التأكد منها أو معرفتها. لكنها مع ذلك حالة حقيقية.
Well, if you go when the snowflakes storm
When the rivers freeze and summer ends
Please see if she’s wearing a coat so warm
To keep her from the howlin’ winds
Please see for me if her hair hangs long,
If it rolls and flows all down her breast.
Please see for me if her hair hangs long,
That’s the way I remember her best.
I’m a-wonderin’ if she remembers me at all
Many times I’ve often prayed
In the darkness of my night
In the brightness of my day
في هذه المقاطع الثلاث يتنقل بوب ديلان بين أنواع مختلفة من "منطق الحب". فأولا يستعمل بوب ديلان الخلفية نفسها ويحولها لمساحة سحرية، أنهار متجمدة، أعاصير ثلجية، قلق، يسعى بوب ديلان لتلطيفه عبر التأكد من أنها ترتدي معطفا دافئا. يقيها برد الرياح العاتية. في هذه المرحلة نحن أمام حالة حب عادية.
ثم ننتقل بصورة منطقية للسؤال: لماذا هذه الانسانة بالذات؟ السؤال الكلاسيكي في اي حالة حب. السؤال الذي يعذب المحبون بعضهم به: لماذا انا؟ السؤال الذي ينتمي لمجال "الحقيقي" غير المعرف. أو غير القابل للتعريف. لكن تتم الاجابة عليه عادة عبر الرمز. عبر تحويل الشخص المتخيل العادي، لشخص رمزي معرف بتفصيلة معينة. تفصيلة واحدة عادة. عبر فصل الجزء من الكل. مثل تعريفنا للخرطوم مثلا عبر النيل. أو تذكري لحياة جدي عبر بيته في أركويت مربع ٤٨. البيت الذي هو جزء منه يتحول رمزيا لشاغل قادر على تعريف الكل. الحب في أحدى مناطقه هو حالة ترميز. لغة. لذلك لا غرابة أن للحب والشِّعر علاقة واضحة. في حالة بوب ديلان ينتقل للاجابة على سؤال "لماذا هي بالذات" للحديث عن شَعرها. شعرها الطويل متهدلا على صدرها. شعرها الطويل الأسود الذي يسمح له ب "تذكرها". الانسان هو حالة من الحياة داخل الرمز. حتى ذاكرته هي حالة من التعلق برموز تسمح له برسم صور ما يعرفه. أو ما كان يعرفه. وعبر الترميز الذي يسمح بالذاكرة يتذكر الانسان نفسه في نهاية المطاف.
المرحلة التالية في "منطق الحب" هي مرحلة "الآخر". فكل الشِّعر والذاكرة والرغبة والمشاعر، كل ذلك لن يهزم جدار "الاخروية". يستعمل بوب ديلان هنا نحوا عجيبا ينتمي لعمق لغته المحلية فيقول I am a-wondering و الحرف A متبوعا بكلمة هو لتشديد الفعل بعده. فكأنه يقول: أنا حالة من التساؤل. أو "أنا تساؤل دائم". أنا تساؤل. هو مسكون بسؤال بسيط: هل تتذكر هي أي شيء عنه؟
أسمي هذه المدونة ظلام. نسبة لمثل تساؤل بوب ديلان هذا. فأنا كذلك حالة من التساؤل. هيغل عبر مرة عن أن الإنسان هو "ظلام العوالم". فما أن تحدق في عين الإنسان، في الفراغ أو السواد، فإنك سترى الظلام استحال شيئا رهيبا. الانسان كحالة من عدم الاكتمال في الوجود، هو تكوين جميل من الحرية الجذرية. لكنه، ولذلك، آخر جذري غير قابل للامساك به. أو هو حالة تتساءل حولها فقط. وربما لا تدري هي نفسها إن كانت تتذكره ام لا.
وعند هذه النقطة. نقطة أنتهاء قدرة شعر بوب ديلان على التعبير. تتدخل الهارمونيكا لتكمل كلامه. وفي هذه القدرة على اكمال الكلام عبر الهارمونيكا ربما كان بوب ديلان في أرقى مناطق أبداعه التلقائي. أو ظهرت عبر هذه القدرة على الكلام عبر الهارمونيكا حقيقة الموهبة البحتة التي تمثلت شخص بوب ديلان.
٣. الفلم: في البايوغرافيا والسينما
كان أستاذنا عبد الله علي ابراهيم قد كتب ربما افضل وصف للبايوغرافيا قرأته في ورقته التأسيسية حول رواية موسم الهجرة إلى الشمال والمعنونة The Colonized: A State of Biography-less-ness. ومصدر جودة التحليل في ورقة البروف هو أنه، كمستعمَر، ينتمي لمجال غريب عن البايوغرافيا جذريا كما يظهر من عنوان الورقة نفسه. وبالتالي كمراقب من الخارج، إن صح التعبير، فللبروف استبصار دقيق عن البايوغرافيا كحالة فردية صانعة للتاريخ.
كنت في نهايات فترة الجامعة وجدت في ورقة البروف التحليل الشافي ربما لأزمة شخصية (ربما تكون كلمة ازمة تضخيما للمسألة). فأذكر مثلا أنني كنت أقف أمام المرأة أحيانا وأنا يافع وأسأل: من هذا؟ أو من أنا؟ ثم قضيت فترة الجامعة، التي هي مصممة عندنا كفترة ميكانيكية، أسعى خارج الاطر الرسمية للاجابة عن هذا السؤال.
ويمكن للملاحظ للحالة ما بعد الاستعمارية التي خلق جيلي داخلها أن يرى أنها حالة مضادة لمثل هذا السؤال. فسؤال البايوغرافيا ينتمي لمجتمع تاريخي، مجتمع له تاريخ مصنوع من قصص فردية، بينما يمتاز المجتمع ما بعد الاستعماري بأنه حالة لا تاريخية (بدأ التاريخ في العام ١٩٥٦). وبالتالي يتكون المجتمع ما بعد الاستعماري من أفراد بلا تاريخ، وبالتالي بلا مستقبل فريد. أذكر مثلا أن مؤسسة التعليم عندنا هي مؤسسة ذات مخيال واحد ضيق: عليك أن تحصل على درجات جيدة وتصبح طبيبا وإلا فأنت حالة من الفشل المطلق. هذه الحالة ليست حالة اقتصادية أو أجتماعية لها اسباب منطقية، بل حالة تاريخية/وجودية لها أساس فلسفي معين. هذه النظرة الضيقة للمستقبل تستبطن حالة من النسيان التاريخي المطلق. بل وأحيانا حالة من نسيان الحاضر نفسه (لاحظ مثلا أن أغلب السودانيين ربما لا يعلمون أن لنا جارة تسمى دولة افريقيا الوسطى، والذين يعرفون هذه المعلومة تقف المعلومة عندهم دون الوجدان، ألتقيت مؤخرا بسائق أوبر في مدينة مونتريال بكندا وقال لي انه من افريقيا الوسطى وفكرت انها اول مرة ألتقي فيها شخصا من هذه الدولة، وكأن لقائي بهذا الشخص هو تصديق لحقيقة جغرافية كدت اظن انها، بتعبير مصطفى سعيد، مجرد اكذوبة).
مهاربي من هذه الحالة كانت عديدة. أهمها هو الفلسفة. كنت أقرأ سلافوي جيجاك بصورة كثيفة و أتابعه بشغف. لأنني وجدت في الفلسفة القدرة النظرية المطلقة على مساءلة كل شيء. وبالتالي معالجة وجداني المضطرب. وربما ما يزال. مهرب آخر كان فن بايوغرافيا السينما أو ال Biopic. وهي الأفلام التي تروي قصة حياة شخص ما. وللأمريكيين ولع بالمذكرات، وقصص الحياة، والسير لأعلامهم عجيب. فتجد للرئيس الامريكي عدد من البايوغرافيات. بل ويتخصص بعض الكتاب في الترجمة لشخص بعينه فيسخِّروا حياتهم في تجميع وترتيب فصول حياته (وأعادة بناءها أحيانا) فتخرج بذلك البايوغرافيا الامريكية من التمجيد للسرد الدرامي. وأذكر من أميز أفلام البايوبك Biopic فلم حياة المغنية الفرنسية أيديت بياف، والفنان الامريكي جوني كاش، والرئيس لينكولن، حتى قصص اشخاص اقل شهرة لكن لهم حيوات عجيبة مثل لاري فلينت المروج الاول للمجلات الاباحية، أو الكاتب المثير للجدل نيومان كابوتي، أو العالم المقعد الشهير استيفن هوكينغ. وغيرها.
ومثل سابقيه فإن فلم "بوب ديلان" هو أحد محطات ال Biopic الأمريكية جيدة الصنع. وربما يخالف الفلم الكثير من سابقيه في أنه حاول، بدلا عن سرد حياة الفنان كاملة، أن يوفي جزءا قصيرا منها حقه. فركز الفلم على فترة قدوم بوب ديلان لنيويورك وهو في أول عشرينياته، شابا صغيرا وربما تائها، وحتى أصدار بوب ديلان لألبومه السادس Highway 61 Revisited والذي يحتوي أغنية بوب ديلان الاشهر بلا منازع Like a Rolling Stone. وبالتالي فإن الفلم ليس مجرد Biopic جيدة فحسب بل وكذلك حالة متخصصة تسعى ربما لفحص بوب ديلان الشاب دراميا ومناقشة تناقضاته ومتاعبه، ليس بما يعيده للحياة فقط، بل وكذلك بما يعيد للبايوغرافيا دورها التربوي الروحي.
٤. لحظة تحول، وجود كثيف:
وجدت نفسي، بعد مشاهدة الفلم، في حالة صراع لطيف معه في ذهني. فيقف الفلم (في صف بوب ديلان نفسه ربما) في تمجيد قراره في الانتقال من موسيقى الفولك Folk Music، التي صنع عبرها بوب ديلان اسمه كما في الاعلى، إلى مساحات اوسع مثل البلوز Blues والموسيقى الكهربائية Electric Guitar وغيرها. كما في أغنيته اللاحقة الأكثر شهرة Like a Rolling Stone. بينما أقف أنا على الصعيد الآخر، بمزاجي المحافظ عموما ربما، مع بوب ديلان الشاب، المغني بصوته وجيتاره والهارمونيكا فقط، بأشعاره البسيطة بالغة الروعة وموسيقاه الميالة للخلود مباشرة.
وقام الفلم بابراز التيار المحافظ حول بوب ديلان عبر المغني بيت سيغر (في أداء استثنائي معتاد من ادوارد نورتون). وبيت سيغر كان أحد مكتشفي بوب ديلان منذ البداية وله فضل حصول بوب ديلان على عقود تسجيل في بداية مسيرته، وهو كذلك أحد رواد أعادة أحياء فن موسيقى الفولك في تلك الفترة، وله اسهامات أخرى ربما أكثر أهمية كأحد أهم فناني حركة الحقوق المدنية. فبيت سيغر فنان ذو قضية إن كان من الناحية الفنية أو السياسية على حد سواء.
وبينما صور الفلم تيار المحافظين بقيادة بيت سيغر في صورة المرعوبين من المستقبل الساعين لموسيقى فولك نقية تجاوزها الزمن (كان البيتلز وغيرهم قد قاموا بتثوير الموسيقى وأدخال الجيتار الكهربائي كعنصر أساسي). فإنني أقف على النقيض من الفلم ملاحظا أن هذا المستقبل تحديدا، أي أيامنا الآن، يثبت خطأ هذه الفرضية. فإن نظرت جيدا فستجدنا نتذكر أغاني بوب ديلان الأولى ونسمعها كموسيقى لا تزال معاصرة بل وثورية، مثل أغاني Blowin' In The Wind و Don't Think Twice, It's All Right و The Times They Are A-Changin' و Masters of War، فالفن الميت أثبت بمرور الزمن أنه المكان الذي عاش فيه بوب ديلان للأبد. وعاش بصورة واضحة، ببصمة لا يمكن لأي شخص أن يخطئها. بينما أنتمى بوب ديلان بعد التغيير، في أفضل الفروض، لبقية أبناء جيله، بأغاني لم يتذكرها أحد.
على كل، وعلى أي حال، فإن الفلم قد أعطى هذا النقاش حقه وحوله دراميا لعملية صراع شيقة، بل وكوميدية في بعض تفاصيلها. الأمر التي جعل الفلم خفيفا سهلا على المشاهدة بلا لحظة ملل واحدة.
الجانب الآخر الكثيف، بل والثقيل ربما، في الفلم كان الجميلة سوزي روتولو. فبينما كانت سوزي الفتاة التي أحبها ديلان في بدايته وعرفته أثناء علاقتهما الحميمة، والمحمومة، بحركة الحقوق المدنية ونيويورك عموما، فإنها مع ذلك وقعت وبصورة غير مفهومة كضحية لتحول بوب ديلان لنجم طاغ. وتعجبني السينما لحظة تمكنها من عكس السؤال غير القابل للاجابة بدون محاولة الاجابة عليه. وكانت سوزي بخفتها وحضورها الطاغي في الفلم رغم ذلك سؤالا محيرا، وتراجيديا.
خرجت من قاعة السينما في حال من النشوة. وأنا أفكر أنني لو كنت خرجت من الفلم سعيدا بمجرد سماع بعض اغاني بوب ديلان لكفاه.