مقدمة: حبيبنا النيجيري..
من الصعب التعرف على تاريخ دقيق للحدث، لكن يمكن القوم بأنه في حوالي مايو ٢٠١٩ دخل فنان الزنق “النيجيري لاعتصام القيادة العامة وانضم لمجموعة شباب سمت نفسها ب "جمهورية أعلى النفق"، المجموعة التي كانت تضرب على الحديد بصورة دائمة في شكل اشبه بعزف لا نهائي على ايقاع ثابت: تك، ترك، تك، تك.. مدنية. بإصرار على أن لا يتوقف العزف، أدى لتقسيم النبطشيات بينهم بصورة منظمة. هلع معروف لحامل الحقيقة بأنه حال تركه لها فإنها ستزول. والحقيقة على قوتها فهي، جدليا، وجود هش.
لحظة زيارته للاعتصام، لم ترهق النيجيري فوضى الظهور التي ارهقت قبله بعض المشاهير من المغضوب عليهم من قبل السلطة الجديدة، السلطة التي كانت ما تزال في طور الجنين داخل الاعتصام. ولكن رفقة ذلك، لم يقدم داخل الاعتصام بصفته ضيف تتشرف به هذه السلطة كأيمن ماو أو غيره من المرضي عنهم من الفنانين. لكن مع ذلك احتضنته جمهورية أعلى النفق وسطها وبدأ يضرب معها بهدوء يحسد عليه. هدوء جعل الحدث برمته سهل النسيان، اللهم إلا بالنسبة لمحب غير متوقع مثلي. ولم أجد سبيلا لهذا الفيديو، حتى عبر غووغل، اللهم إلا عند بعض الأصدقاء وقد ارشف لهذا التاريخ شاب على تويتر حصل عبر هذه الارشفة المهمة على بضع من اللايكات:
١. حركة وطنية واحدة، أم حركات؟
أود أن أقوم بعكس العملية المتوقعة: في العادة يقوم المثقف بتحمل مسؤولية رفع نوع من الفن الشعبي لمستوى الفن مكتمل الأهلية. في هذه العملية يقف المثقف عاليا بلغته الرفيعة -افتراضا- ورأس ماله الرمزي بما في ذلك قدرته على النشر، أو علاقاته بمراكز البحوث وغيرها من بيوت السلطة الرمزية، إلخ. ويقوم برفع الفن إليه. رغم إعجابي بالكتابة الرصينة لمجدي الجزولي عموما، وهذا المقال خصوصا، إلا أنه لا يمكن إلا أن يكون مثالا جيدا على هذا النوع من الكتابة. وبالنسبة لي فإن هذا الهيكل للكتابة يجعل من المثقف مطبلا. فالعملية التي تبدأ كتعبير عن إعجاب حقيقي ما تلبث إلا أن تنتهي كنوع من التصفيق غير النقدي. فإن أردت أن ترفع فنا ما من أسفل فأنت سوف تقبل، وللمفارقة، أولا، أنه في الأسفل. وهنا تأتي الحالة الشائعة عند الماركسيين الكلاسيكيين، ومن بينهم مجدي، التي تتحول فيها الطبقة العاملة، عموما، من كونها حالة إجتماعية موضوعية، وترفع بفانتازيا المثقف لكونها هي نفسها الحقيقة. وبينما ليس بالإمكان نقد الحقيقة، فإن الطبقة العاملة هي وجود إجتماعي قابل للنقد. فإن أصبح هي والحقيقة، كلا واحدا، أصبحت بالتالي مثلما يظهر في مقال مجدي، ليست شكلا اجتماعيا قابلا للنقد بل تحفة فنيا ليس للواحد منا أمامها إلا التأمل بإعجاب. إعجاب سيشمل كل شيء، حتى ما سيكون بإمكان مجدي نقده بحدة في مناطق حرة أخرى.
ما أريده أنا في المقابل. ضد عملية الثقافة كرفع لفن شعبي ما. العملية التي أراها، بعيدا عن أي شيء أخر، مملة. أريد أن أقوم بشحذ همة المثقف عبر الفن. ما هو في الأعلى وما هو في الأسفل يجب أن يعكس.
دعنا نبدأ أولا، إذن، بفصل الزنق إلى قسمين: موسيقى الزنق. والأغاني المصاحبة. يدور افتراض بليد في الأوساط الثقافية السودانية أن الوحدة بين الموسيقى والأغاني، في داخل ظاهرة الزنق، هي وحدة عضوية. ومثل هذا التصور غير مستغرب من العقل الأكاديمي السوداني حيث هنالك نفور يكاد يكون فطري من أي عملية تفكير جدلي. وعموما فحسب النمط السائد فإن أصح الحلول أبسطها. ولن يخرج طالب واحد من جامعة الخرطوم وهو يرى في شيء بسيط مثل ١+١=٢ مشكلة. فهذه المعادلة هي بالنسبة للتلقين التعليمي عندنا هي أصل البساطة في الوجود. الحقيقة مع ذلك، هي أن الرقم واحد مثلا، هو رقم إشكالي لدرجة مرهقة للعقل، حيث هو لا يتضمن فقط افتراضا بإمكانية الوجود المحض غير قابلة للإثبات، بل وكذلك يتضمن في داخله الرقم صفر. وهو بالطبع الرقم المشير في نفس الوقت، للعدم، ولإمكانية الوجود نفسه. بالنسبة للتعليم الجامعي الاستعماري فمثل هذا التفكيك الجدلي، اللازم هيكليا، هو من الهرطقة غير المجدية. ويتبع من هذا النوع من المنطق أشياء كثيرة، واحدة منها في إطارنا هنا هو الالصاق الطفولي لكل ما يبدوا متحدا: موسيقى الزنق التي هي تدخل فني جذري، هي نفسها أغاني الزنق التي هي الغطاء الذي يهدف إلى تحويل الفتح الوجودي لغثيان ركيك.
ليس مستغربا بالتالي أنه هنالك، مثل كل شيء، نسختان للزنق: نسخة موسيقية غير يتم في العادة تجاهلها، ونسخة غنائية رائجة بين عنصر السلطة الاجتماعية الجديدة.
٢. الهرج والفرح:
مثلما يسود التهريج والإستتفاه الذاتي، كعقيدة عامة، بين النخبة. فإن النسخة من الزنق التي أرتاحت لها وقبلتها كثقافة “تحت الأرض” غير الرسمية ولكن الرائجة، كانت النسخة التي تقوم فيها الطبقة العاملة بإهانة نفسها. بالتصرف كمجموعة من المهرجين أمام جمهور نهم برجوازي صغير. فليس لهذه الطبقة العاملة، الرثة، مثل الأشواق الفنية، والمتاعب الوجدانية، التي سادت في الفن الرسمي البائس تقنيا الذي تربت عليه النخب السودانية. ماذا يمكن أن تتوقع من مجموعة من “الفاقد التربوي” بمعنى الذين لم يتلقوا التعليم الإستعماري الرصين؟ الإجابة: أن حياتهم هي ذلك الشيء الذي تسمعه في أغاني الزنق. وفي هذا الإطار فإن المشترين يحصلون على البضاعة التي يشتهون. ليست المشكلة في كلمات أغاني الزنق البذاءة أو القبح المعنوي، بل التساهل. التعبير عن الوجدان فيه تساهل راقص. تساهل لا تعكسه حقيقة الوضع الصعب (الصعب بمعنى الحقيقي، الأصيل، المفضي للألم والفرح في نفس الوقت)، وضع التخلق الذي ما زالت الطبقة العاملة، غير النظامية، السودانية تعيشه. وهو وضع لا يمكن في الحقيقة التعبير عنه بكلمات، وذلك هو أطار موسيقى الزنق، المنبت الذي نشأت عبره: محاولة للتعبير فوق الكلام، الكلام الذي هو، في إطار الفن السوداني، امكانية لطبقة إجتماعية مرتاحة في نفق ضيق من التعابير والتفكير.
الفن الصعب هو الإستماع لموسيقى الزنق بلا كلمات. أو، بمعنى أخر، الإستماع للكلام المحكي عبر الموسيقى نفسها. أي نوع من الخلق الفني، التعب الوجودي، الفرح، يؤدي لخلق هذا النوع غير النظامي، غير المهيكل، من الفن؟ ما هي النظرة للحياة نفسها التي تجعل الواحد يكتب موسيقى فرحة في وجود عبثي بلا ضفاف؟ أي نوع من الانفجار الفردي والجماعي وجوديا يقود لنوع من الأداء الجماعي، العشوائي، ومع ذلك المنسق مثل الذي يقوم به نيجيري مثلا والفرقة خلفه؟
الأغطية الأيديولوجية التي هي الكلمات السهلة، مما يطلبه المستمع البرجوازي الصغير، لن تكون قادرة على اخفاء الجذر الخطر لهذه الموسيقى. وهو جذر تتشاركه موسيقى الزنق مع رفيق غير متوقع لها هو الرسام محمد عبد الرسول.
دعنا نراجع فرضية ألان باديو الثامنة عن الفن:
ما هو حقيقة في الفن هو مثالية اللا-نقاء محمولة عبر ضرورة عملية التنقية. بتعبير أخر، المادة الخام للفن خاضعة لصدفة تحقق الشكل. الفن هو التعبير الشكلي المكتمل لما كان من قبل شكلا مبهما بلا قرار مبين.
ما يبحث عنه محمد عبد الرسول هو عملية تكثيف حاد لشكل فني لم يوجد من قبل. وذلك ناتج عن ضرورة. عن ضرورة هي الجديد. ما لم يوجد من قبل هو، في نفس الوقت، ضرورة للوجود. وفي داخل عملية الخلق المستحيلة بالتالي يوجد الفنان كذات والفن كموضوع. وهذا الفن، بضرورته التاريخية الإجتماعية، هو في نفس الوقت بالتالي حالة خلق لذات -وذوات- جديدة. وهو مثل لوحة محمد عبد الرسول في الأعلى عملية طفولية مفرحة، وتراجيدية مرهقة في نفس الوقت. لا عجب بالتالي بأنه راج بين الشباب المستمع لموسيقى الزنق تعاطي الممنوعات رفقة عملية الاستماع. فالهرج العام المتبلد المتاح للنخبة المرتاحة داخل طبقاتها من الأيديولوجيا التي تسمح بالبعد الوجداني عن الفن بإعتباره مجرد تسلية، ليس متاحا للمجموعات المنتجة لموسيقى الزنق، ولا المتلقية لها. وهم معا، كمتلقين ومنتجين لحالة فنية، وليس ما يسمى بأغاني الزنق، الوحدة الجدلية الموجودة فعلا.
وهنالك شعور واحد ممكن بعد الخلق: الفرح.
٣. الحقيقة على الهامش:
يقول ألان باديو بأن الفن “يبدأ من نقطة هي، من منظور الامبراطورية، غير موجودة. وبالتالي فهو يمثل أولئك الذين هم من منظورها غير موجودون”. وتلك كما وضحنا في الأعلى، هي ليست عملية كشف أو أعلام، بل عملية خلق. خلق من العدم. والحقيقة هي في أنقى تعريفاتها، خلق ذاتي لوجود متحقق. عبر عدة عمليات ممكنة من بينها الفن.
وما يجب تعلمه من موسيقى الزنق، هو ليس فقط، قدرتها الاعجازية على الربط بين العبثية والشكل، الأناركية والشيوعية، أو قدرتها على التعب والفرح في نفس الوقت، التراجيديا والأيمان، أو قدرتها على الإبداع والنظام، الخلق الحر والعمل الرصين. بل فوق كل ذلك، قدرتها على النمو والتحرك، كحقيقة واضحة، في الهامش. هيغل أقر قديما بأن الروح تنمو وتحلق في الظلام. ولذلك فطالبوا الظهور الدائم لم يحملوا فوق ظهرهم غير الأكاذيب.
فعندما نتحدث عن خلق مشروع الشيوعية الافريقية أو حتى الديمقراطية الجذرية، هنالك صبر ضروري على التهميش ربما لو قبله السياسي والمثقف السوداني لكان وضعه أفضل. يمكننا أن نحدق في ظاهرة الزنق كرائد نسير خلفه. أما رفعها لمرتبتها فهو مما لا يقلق حصيف حياله. فالناس يحبون الحقيقي.
لاحظ كيف أحبت جمهورية أعلى النفق أبنها البار.
تسلم تسلم ورمضان كريم عليك🌹
السلام عليكم ي محمود
ان شاء الله دايما تكون بخير ..
مشكور ياخي على رجعتك تنشر لينا كتاباتك وافكارك بعد الانقطاع عن الفيسبوك..
كنت دوما محفز لينا على التفكير بشكل جذري ومختلف من ايام الثوره وقبلها..
وما اجمل كتاباتك عن الفن والسينما برضو ..
نتمنى ليك التوفيق وياريت تواصل في نشر ما تكتب ..
بس ورينا قاعد تكتب وين - لو في محل غير هنا- عشان نقدر نوصل ليها😅