منذ العام ٢٠١٦ لم أتمكن من زيارة بلدي السودان. وخلال تلك الثمانية أعوام سيكون تقليلا أن نقول أن مياها كثيرة جرت تحت الجسر. لكن وعلى الرغم من ثقل كل تلك الاحداث وصعوبة متابعتها عن بعد. فإن أصعب فصولها علي شخصيا كان فقد الخال عبد القادر عليه رحمة الله. كنت قد نشأت صغيرا على علاقة وثيقة بابنائه أبراهيم الكباشي ومصطفى وهم في عمري. الأمر الذي جعلني منذ الصغر زائرا دائما، لداره.
في بداية العام ٢٠٢٣ أتيحت لي الفرصة لزيارة دولة غانا كجزء من قافلة صحية. ذهبنا في هذه القافلة لمنطقة بعيدة على الحدود بين غانا و دولة توغو في أقليم الأوتي في الشمال الشرقي للبلاد. هناك حيث لم يصل من مظاهر الحداثة أو فلنقل التحديث (وهنالك فرق)، شيء كثير. حيث المجتمع من ناحية له حياة صعبة فيها مثلا على الانسان أن يمشي لعدة كيلومترات يوميا ليذهب للسوق او ليجلب المياه من البئر أو ليذهب للصيد في بحيرة او نهر الفولتا. ولكن من الناحية الأخرى فأنت كزائر من الولايات المتحدة، ستشعر مباشرة بما هو مفقود في البلاد التي تموت من شدة البرد حيتانها في تعبير بليغ للطيب صالح: الشعوب الغانية هي شعوب مبالغة في الترحاب والتراحم. البيئة نفسها بسهولها وجبالها الخضراء، وبقلة المعمار وكثيرة البشر في المقابل، توحي بنوع من الرحب بديع.
كنا نقيم العيادات للمرضى برفقة مترجم. اللغة السائدة في الإقليم هي لغة ال "تفي" Twi، فكان يتطلب الأمر أن يقوم أحد أبناء القرية المتعلمين بالترجمة من لغة المريض للأنجليزية والعكس. وهي مهمة غير سهلة إذا ذكرنا أنني كنت أطبب عشرات المرضى. وهؤلاء الناس في فقر من توفر الطب يجعل شكواهم معقدة وقوائم همومهم الصحية طويلة. أحد المترجمين كان شابا بالغ الذكاء وكان يقوم بصورة واضحة بما يمكن وصفه بالترجمة الأجتماعية، فهو لم يكن ينقل حرفيا ما يقوله المريض أو ما أقوله أنا له، بل يمرره عبر منعطفات التاريخ والاجتماع حتى يصير مفهوما. وكان ذلك يعجبني. فأنا قبل أن اكون طبيبا أعرف نفسي كمثقف او ساع لثقافة وتلك عوالم أحبها.
في معرض حديثي مع الشاب، تكلمنا عن سياسة واقتصاد المنطقة. زراعة الكسافا و اليام وهما بتعبيرنا "سلع استراتيجية" لكن مع ذلك ورغم كثافة هذه الزراعة الملاحظة، فإن ذلك لم يمنع الفقر. وإنتشار سوء التغذية والملاريا المزمنة. وكان هذا الشاب يعطيني اجابات مفصلة. فسألته عن تعليمه. فقال لي بصوت مرتفع يشير لنوع من الغبن بأنه أكمل تعليمه الجامعي وحصل على درجة البكلاريوس في الاقتصاد. ثم وبصوت متحسر، قال: ولكني مازلت هنا. وشعرت وأنا من مثل نوعه من مخرجات التعليم العالي الاستعماري، بمقدار الاسى في عبارته. الاسى والخجل.
مرت علي في أوقات كثيرة ذكريات مع خالي عبد القادر عليه رحمة الله. لكن مؤخرا تذكرته في مقابل هذا الشاب. وربما يحق لمرثية من هم مثله أن تذكر لتشفي بعض من الجراح التي اصابتنا كبشر في عالم حديث يلهج يوميا بالقول بلا معنى الوجود المحلي. فالشاب الغاني، وهو يخدم أهله، وينال تقديرهم ويرتفع شأنه بينهم، لم ير في ذلك إلا: ولكنني ما زلت هنا. هذه "الهنا" يمنحها أمثال خالي معنى آخر.
ــــــــــــــــ
كنا في بدايات التسعينات نذهب لزيارة السودان بصورة دورية من موقع اغترابنا في سلطنة عمان. وكنا ننزل ببيت جدي الأمين، ونقول له بابا أمين حتى ظننت وأنا صغير أن ذلك اسمه. وكان جدي الأمين رجلا ذي بصيرة بالمعنى الديني الصوفي وبالمعنى الغربي Visionary. كان يحث أبناءه بسبل عدة على السكن بالقرب منه. وإنتظمت حياتهم بالتالي في تراحم تلقائي شديد القرب. وأصبحت الحلة في أركويت مربع ٤٨ ليست مجرد محل سكن جدي بل وكذلك عدد من خيلاني. فكنا نقطع ال"ظلت" (الشارع) لنجد على الطرف الأخر منزل خالي عبد القادر و منزل خالي عبد العظيم. وكلها بيوت مفتوحة لنا، لكل واحد منها نكهة خاصة.
ما أن تشرق الشمس، أو أحيانا قبل ذلك بقليل. حتى نذهب لقضاء اليوم في منزل خالي عبد القادر. أو يأتي أبناء خالي لقضاء اليوم في بيت جدي الامين.
أحدى أولى ذكرياتي كطفل بعمر الخامسة أو السادسة. كانت عندما حملني الخال عبد القادر على كتفه وتسلق نيمة (شجرة نيم) طويلة كانت أمام منزله. في أعلى النيمة كان يربط كرسيا صغيرا. ذلك الكرسي كان المكافأة التي يحصل عليها الطفل إذا نال رضى الخال. وضعني على الكرسي وجلست انظر من اعلى الشجرة للحلة. وتلك كانت أولى ذكرياتي مع الجمال. الجمال الذي أصبح البحث عنه أحدى روافع قدرتي على الحياة نفسها.
كان خالي محبا لمخلوقات الله. يربي تحت ناظريه صنوفا من الطيور. ويقضي وقتا طويلا كنت كطفل اتعجب منه، وهو يعتني بتلك المخلوقات. ويعيد ترتيب الاقفاص ويصنعها بنفسه. فهو كعامل يعتمد على مهارات يده وخبراتها، كان لا يمل الصناعة. وتلك مساحة للحياة مختلفة، حيث الوقت يقضيه الانسان معتنيا ب وخالقا ل الأشياء. ببدن مفعم نشط. وعقل مرتبط باليد ومهارتها. كان الخال رشيقا نحيلا. وقويا مهابا في نفس الوقت.
تلك المحبة للطبيعة بما فيها محبة الأحياء من مخلوقات الله. فهمت لاحقا، أنها كانت امتدادا ربما لنشأة قديمة رأى فيها خالي ذلك في عطبرة حيث كانت تتمركز أجزاء من الاسرة. ثم هو كذلك أرتباط أخير لجيل خالي بنمط حياة سابق كان فيه السودانيون يعلون من شأن الحرفة، والزراعة، والاعتناء بالحيوان. قبل أن ينتكسوا بالكامل نحو التركيز مع حالة "الافندي" باعتبارها الحالة المثالية. وعندما عشت في أمريكا وساقني العمل لزيارة أطراف الريف الامريكي في أكثر من ولاية. فهمت أنه حتى هنا ما يزال الناس ورغم التطور الصناعي يحبون حياة الريف الحية بزرعها وحيوانها. فتجدهم مثل خالي يربون الحيوانات في خلفية منازلهم و يزرعون الخضروات وغيرها. ففكرة "الافندي" هي فكرة باطلة حتى في منشئها.
وكان للخال لطف ورقة عجيبة لمن أحب. مثلي و أنا صغير. فكان يفرح جدا بقدومي. "أولاد أسيا" كان يسمينا و أسيا هي أخته. وفي المقام الرسمي، كان يقول أولاد معتصم. يشرح لنا ربما أنه هنالك فرق بين المنطقة الحميمة والمنطقة الرسمية في أعراف أهلنا. كان شديد الرقة مع الأطفال، أذكر مرة أنه كان يلاعب أحد أبناء أخوته وهو في عمر صغير ربما عام. فقال لي أنظر للطفل يفهم بقلبه، فإذا أبتسمت له يضحك حتى و إن كنت تقول له "يا شين" و كان يكررها و يضحك و يضحك الطفل. تذكرت هذه الحادثة لاحقا في معرض نقاشات فلسفية عن "جوهرانية اللغة" فحسب فلسفة خالي فاللغة أساسا هي، ومن منظور الطفل بقلبه الصافي، هي تعبير عن النية و الروح تفهم عبرها.
في المقابل كان الخال صعبا على من عاداه. حتى لتكاد أن تشفق على خصومه. فهو كان يحمل في داخله أعراف للفروسية السنارية، تقول بالكرم تجاه الحبيب و الشدة تجاه الظالم. وعلى تلك الأعراف كانت التربية. حيث يجهز الواحد منهم لمواجهة الدنيا كفاحا، لا يتوقع منها إلا الشدة ويجد المتعة في مصارعتها. وكان في هذا المضمار حازما بدون أن يحوله حبه للمواجهة مع من يستحق للقسوة. فكان مرحا وله خفة وجمال في الحديث لا يمل.
أذكر مرة أثناء موضوع أوكامبو. وطلبه لتقديم المجرم البشير للجنائية. ألتفت خالي لي وقال بوجه واثق ضاحك: ما تسمع كلام الناس ديل يا ابني. البشير دا مجرم طبعا. لكن إذا الناس بتاعين المحكمة الجنائية ديل عندهم طيارة بتقدر تجي تشيل البشير دا و تمشي بدون ما يحصل لينا اي شيء، فبرضو نحن ضد تسليمه. نسلمه ليهم ليه؟ وسكت. ولتلك المدرسة في السياسة المبنية على المروئة ما زلت انتمي. وبدونها نتحول لمجموعات من الخنازير كما رأينا في ايام الاحتفاء بالتطبيع.
عاش الخال على هذا النهج. في الحياة يوميا بين أهله و أحبابه. بين حيواناته التي يربي. يخلق القصص الصغيرة. ويزرع نفسه عميقا في أرضه. كذكرى لمن يعرفه. في داخل مساحة محدودة وصغيرة غير مرئية للخارج. ليست لا مزخرفة بجاه كلية غردون وشهاداتها. ولا بمال كنزه. لم أعرف عنه أنه سافر خارج السودان اللهم إلا قليلا ربما. فهو ممن لا يتخيل نفسه بعيدا عن أهله. ولا يتوقع منه أحسان صنعة البعد. الصنعة الصعبة للمهاجرين. حف حياته في نضجها تدين صوفي عميق. وصبر على المرض الشاق الصعب ببسالة وثبات عجيب. وبقليل شكوى، من آلام أعلم أنا الطبيب عظمها. وتلك كفارات تغسله وتقربه لله بإذن الله.
وكان الخال صوفيا بنفس راضية محبة للصالحين. يشهد على ذلك تسميته أبنه أبراهيم الكباشي على الشيخ أبراهيم الكباشي أحد أعلام الطريقة القادرية. لا يمكن فهم الانسان السوداني. ولا توقع حل مشكلته. بغير العودة لأصله الروحي في التدين الصوفي السناري. ومحبة الصالحين وتذكرهم والارتقاء بهم وعبرهم. وذلك مضمار صار وعرا بدخول المال والغباء السلفي من الخليج للسودان بكثافة. لكن لا يصح في النهاية إلا الصحيح. انتمى الخال مثل كل أجداده لهذا التاريخ الفريد وأحبه وآمن به.
تبدأ الحالة الاستعمارية من الغاء هذه الحيوات المكتملة. فيقول مخبروا الاستعمار عندنا عن السودانيين انهم "يعانون من الجهل والفقر والمرض"، وباستيكة يمحى كل ما فوق ذلك من نور الخلق والخالق. جهل وفقر ومرض و خلاص. يهزم الاستعمار وكل منظومته الايديولوجية عبر رؤية الشخص مثل خالي، وجها صبوحا، مكتملا. عاش بحقه، ومات بحقه. الله اسبغ عليه من الرحمات والبركات ما يليق بك.