هذا الاسبوع في أمريكا-٣: قاتل و بطل؟ تشايكوفسكي في ريف أيوا، ومرحبا في عوالم سكوت هورتون
سلسلة أسبوعية عن أمريكا كما أعرفها
أسبوع ١٥ ديسمبر ٢٠٢٤
أقرأ مقدمة السلسلة:
١. قاتل أم بطل؟
أثار مقتل مدير شركة UnitedHealthcare للتأمين الصحي، السيد براين تومبسون، أثار خبر مقتله في شوارع منهاتن ردود فعل صاخبة على مستوى الشارع الأمريكي. وما زاد من شدة وقع الخبر أنه جاء مرفقا بفيديو مكتمل يوثق للجريمة لحظة وقوعها. ناهيك عن أن الحادثة ظهر من البداية أنها مدفوعة بشعور تظلم أو grievance ضد شركة التأمين، مما جعلها جريمة "سياسية" إن صح التعبير. وكان القاتل قد نقش على الطلقات النارية، التي استعملها لقتل السيد براين تومبسون، عبارة "delay", "deny", and "depose" وهي شبيعة بعبارة أخرى شهيرة هي "delay, deny, defend" والتي تشير إلى استراتيجيات شركات التأمين لتفادي تغطية المرضى عبر "التأخير، الرفض، والتقاضي". الأخيرة ربما حورها القاتل ل "التخلص depose" بمعنى التخلص عبر الاغتيال.
على العموم الأمر كله أثار حالة من الخوف في صفوف شركات التأمين والطبقة الادارية الامريكية عموما. وستجد أن الشرطة بدأت تتعامل مع أي تهديد لشركات التأمين بجدية مفرطة ربما. كما في هذه الحادثة. حيث تم التعامل قانونيا مع سيدة في ولاية فلوريدا كررت عبارات "delay", "deny", and "depose" في محادثة مع شركة تأمين.
أما على صعيد القاعدة فقد سادت حالة، غرائبية ومتطرفة وعامة، من السعادة والاحتفال بمقتل السيد براين تومبسون في وسائل التواصل. وبين النكات والتعليقات الجادة الكارهة لممارسات شركات التأمين بحق المرضى، وضح بما لا يدع مجال للشك أن الجريمة قد وقعت موقعا حسنا عند العديد من الأمريكيين إن لم يكن أغلبيتهم. وتم القاء القبض على مشبه به يدعى لويجي مانجيوني، وبحوزته ما وصف بأنه "مانفستو"، أشار فيه فيما يبدو لأن دافعه كان بالضبط ما توقعه الكل: نوع من الانتقام من شركات التأمين.
كيف يمكن قراءة هذه القصة؟
علينا في البداية أن نبدأ بنقد لفكرة أشاعها الكثيرون عن المجتمع الأمريكي على أنه مجتمع "تعاقدي". تم فيه، حسب هذه السردية، التطبيع الكامل لحالة التعاقد حول كل شيء. ربما أكبر المروجين لهذه السردية عندنا هو المرحوم عبد الوهاب المسيري في كتابة الممتع (رحلتي الفكرية). ولعبد الوهاب المسيري تأسيس معقد ل"مادية المجتمع الامريكي" الشاملة يبدأ، وبصورة غريبة، من دراسته لشعر وولت وايتمن. وربما يضع المسيري، بصورة مستعجلة، مقابلة شاملة بين الروحانية الدينية و/ضد المادية. وعبر هذه المقابلة يكون المجتمع الامريكي، بداية من وولت وايتمن صاحب الرائعة "أوراق العشب"، مجتمعا ماديا خاليا من الروح في اساسه. وسيكون من الواضح أن المقابلة بهذا الشكل التبسيطي هي تفكير رغبوي من المسيري لا تمت للواقع بصلة.
فالمادية. كنظرة للوجود. حال استحكامها، ما تلبث إلا أن تنقلب لروحانية بلمح البصر. لأنه تعمل فيها آلية التاريخ التي سماها هيغل الجدل:
يفسر سلافوي جيجاك على سبيل المثال أفلام المخرج السوفيتي تاركوفسكي، تحديدا على أنها ألتقاء المادية، وعبر الوصول ألى أقصى مستويات المادية، مع الروحانية. وذلك يمكن تتبعه مع جيجاك في اماكن عدة في مقالاته وكتبه لكن ربما أوضحها في هذا المقطع
وبنفس القدر. فمهما حاول المسيري اقناعنا، فسيكون من الصعب حين نقارن مثلا أحد رجال الدين الاصوليين وتعاملهم القانوني "التعاقدي" مع الدين، وأحيانا في شكل مادية فجة متحالفة مع الدولة وخادمة لها ألخ، حين نقارن رجل الدين الاصولي مع وولت وايتمن وماديته عبر "أوراق العشب"، سيكون صعبا أن نشعر أن "الروحانية" أو "التراحم" هو في صف رجل الدين وليس وولت وايتمن.
على العموم وبالعودة لحادثة مقتل السيد براين تومسون، من الواضح أن "التعاقدية" في المجتمع الامريكي، قد أظهرت وجهها الآخر التراحمي. وإن بصورة متطرفة: أحتفال جماعي، يكاد يكون ديني بصورة معلنة، بمقتل "الشر". وأنا بالطبع، كمعادي دائم لهذا النوع من التدين عبر المجموع أجد نفسي ضد هذه الحالة. لكن ذلك موضوع آخر.
على العموم، وجب لفهم القصة أن نركز أولا على أنه هنالك تحت سطح "التعاقد" الرأسمالي البارد في المجتمع الامريكي، مساحات واسعة من التراحم الجذري. فأنت حال دراستك للنظام الصحي الامريكي ستجده في حالة تمازج وصراع أحيانا، بين المثال الروحي (ممثلا في العديد من المؤسسات الصحية التي تتبع للكنائس تحديدا كمؤسسات غير ربحية) وبين ضرورة التعاقدية الرأسمالية التي هي أساس التعاقد الاجتماعي العام. أضف إلى ذلك أن المجتمع الامريكي كان قد وصل لحالة تخرج كبار السن بالكلية من مجال التعاقد إلى مجال التراحم. وردة فعل الجمهور على الجريمة دليل على أن المجتمع غير راض بالمجمل عن الوضع الحالي رغم ذلك.
إذا فهمنا المجتمع الامريكي، مثل المسيري، بصورة كاريكاتورية، باعتباره مجتمعا ميتا من الناحية الروحية، فستكون ظواهر كثيرة مفاجأة بالنسبة لنا: الجندي، ورجل الدين، والوطني Patriot والمناضل من أجل الحريات. وبعض هذه الظواهر ستأتينا محمولة عبر البحار بين الفينة والاخرى. وسيكون من الصعب التعامل معها.
على صعيد آخر، تشير القصة لوجه آخر في المجتمع الامريكي أكثر اظلاما: الاحتفاء الجماعي بموت أنسان، يظهر بالمقابل، واحدة من المشاعر الامريكية العامة غير المفكر فيها جيدا، وهو شعور الكراهية. أو ما يمكن كذلك وصفه ب"الاخروية الجذرية" Radical Otherness. والتي تظهر بصورة اعتيادية في شكل أنتشار لنوع مرضي من التنمر في المدارس، وبصورة أكثر تطرفا في شكل ظواهر القتل الجماعي للاطفال في المدارس. أو ظواهر الاطلاق العام للرصاص المتكررة في المجتمع الامريكي. كذلك ستجد مثل هذه الظاهرة من الرغبة الضمنية في العنف تظهر في شكل تأييد ما يسمى بعدالة السجون Prison Justice حيث من المعتاد في سياق الخطاب العام في أمريكا أن يتمنى الشخص لمجرم ما أن يتم بحقه عدالة السجون، ويعني أن يقوم أحد المجرمين بقتله أو أغتصابه إلخ من الفظائع الاعتيادية في السجون الامريكية. (لاحظ أنه بالمقابل يلغي القانون الامريكي في أغلبه عقوبة الاعدام، فما هو ممنوع من حيث الهيكل يرغب فيه الناس من الناحية النفسية). لسلافوي جيجاك ورقة بارعة عن النرجسية كحالة نفسية عامة في المجتمعات الغربية. وكنت قد كتبت حول الورقة مقالات نشرت في صحيفة الاخبار اللبنانية وأنشرها على هذه المدونة. على العموم يبدو أن أحدى نهايات النرجسية الجماعية الممكن هي حفلات الاحتفاء بالموت هذه. ل "الآخر" موقع هش جدا في المخيلة الامريكية.
٢. تشايكوفسكي في ريف أيوا:
قادتني ظروف العمل للنزول بمدينة دافنبورت شرقي ريف ولاية أيوا الامريكية. وبالمناسبة فولاية أيوا هي بيت لأحدى أكبر الجاليات السودانية في الولايات المتحدة. ولنا معها كسودانيين علاقة تاريخية تمتد منذ دراسة الراحل القائد جون قرانق في جامعة ولاية ايوا. ونكتب عنها، أي الجالية، في المدونة قريبا إن شاء الله.
على العموم في أثناء مكوثي في مدينة دافنبورت، وهي مدينة صغيرة نسبيا وميناء على نهر المسيسيبي، عرفت أنه يقام سنويا في مثل هذا الوقت من السنة عرض باليه الموسيقار الروسي المعروف بيوتر ايليتش تشايكوفسكي "كسارة البندق" The Nutcracker. وذهبت لحضورها ولم يخب ظني، لا بموسيقى تشايكوفسكي ولا براقصات وراقصي الباليه ولا بجمهور مدينة دافنبورت.
العرض هو قصة محكية عبر الرقص على ايقاعات الموسيقى الكلاسيكية. والقصة بسيطة، وجميلة في نفس الوقت، مصممة لتحكى في خلال احتفالات الكريسماس في الشتاء، تروي قصة طفلة اسمها كلارا منحها صديق العائلة الساحر دروسلماير لعبة عبارة عن كسارة بندق في صورة فارس. وفي نفس الليلة تهجم على العائلة فئران وتكاد أن تسرق كل الهدايا، إلا أن كسارة الفندق تتحول لفارس وتقوم بمحاربة الفئران البشرية وهزيمتها. بعدها يدعوا الفارس المنتصر الطفلة كلارا للمجيئ إلى عالمه السحري لزيارته. وفي الطريق يمرون بغابة سحرية ينزل عليهم فيها ثلج كثيف (كان هذا الجزء هو الاجمل بالنسبة لي). على العموم تصل كلارا لعالم السحر وهناك تشهد أبدع وأعذب الرقصات ويغمرها فرح طاغ، ثم تستيقظ لتجد أنها كانت تحلم ولعبة كسارة البندق ما تزال بيدها.
وفن رقص الباليه هو من منتجات عصر النهضة الاوروبي وتطور منذ القرن السادس عشر ليصل نضجه ربما في نهايات القرن التاسع عشر (على ايام تشايكوفسكي) وبدايات القرن العشرين. وتلاخظ كمشاهد أن عملية رقص الباليه لها جمالية معينة: تطويع كامل، وقاسي ربما، للجسد، وتزامن دقيق مع الموسيقى. بحيث أمكنني أن أفهم أن الكثير من الاسر رأت في هذا العرض مناسبة لاصطحاب أبناءهم الصغار لمشاهدتها. ففي مثل رؤية البراعة والموهبة شحذ لمخيلة الطفل. ورأيت العرض مفارقة لحالة التركيز مع العقل دون الجسد (التي يغرق فيها التعليم الاكاديمي أحيانا) و لحالة ربط موهبة الرقص بالجاذبية الجنسية. وتلك بالفعل تربية جيدة. (بالنسبة للانسان الغربي، لكل أمة تربية تناسبها).
بعيدا عن النقد الفني، فإن ما دعاني للكتابة عن هذه التجربة هو اهتمامي العام بما سماه أستاذي علي عزت بيجوفيتش "التاريخ الداخلي للشعوب". وفي هذا السياق فإنه لإمكاننا أن نتعلم شيئا من مجتمع المدينة الصغيرة دافنبورت في أيوا. فبدون خلق مثل هذا العرض لا وجود للتاريخ الداخلي للشعوب، وبالتالي للشعوب نفسها.
المؤسسة القائمة على العرض قامت بتقديم كتيب يشرح تاريخ المؤسسة وأهدافها واسهامها في المجتمع. وتجد في الكتيب شرحا لعلاقة المؤسسة مع الاطفال والشباب، تدربهم (وشارك في العرض عدد غير قليل من أطفال المنطقة وشبابها)، وعلاقتها بالمدينة ككل تحيي عالمها الثقافي بمثل هذا العرض. ثم تجد صفحة مخصصة لشكر المتبرعين:
وأقول دائما بأنه لفهم التاريخ الامريكي. السياسي الديمقراطي. لا يمكن ذلك إلا عبر فهم ظاهرة "المتبرع". وهي كما في الاعلى في شكل درجات: هنالك البرجوازية بأفرادها ومؤسساتها، تتبرع بسخاء. وقيل أن ذلك تم تاريخيا في شكل متبرعين معروفين من أسرة الروكيفيلر أو كارنجي أو حاليا بيل غيتس أو أيلون ماسك، لتوفير تبرير لثرواتهم. فتجد أن أحد صانعي ثقافة مدينة جميلة كبيتسبيرغ في ولاية بنسالفانيا هو أندرو كارنجي مالك مصانع الحديد المشهور. فهنالك متاحف عدة تحمل أسمه وجامعة. وبدون سلسلة مؤسساته التي تبرع بأموال انشائها ربما تكون بيتسبيرغ مدينة أخرى. وبغض النظر عن أي نقد ماركسي لهذه الظاهرة، فإنه يمكنني القول بلا مواربة أن بناء المجتمع عبر تبرعات برجوازيته الوطنية أفضل بما لا يقارن ببناءه عبر أموال المنظمات الاجنبية. وأسوأ من ذلك بناءه عبر أموال المنح التي تأتي من دول خارجية.
ثم حال تتبعك لظاهرة المتبرع، كما في الأعلى، فستجد أنها تتجاوز البرجوازية للطبقات الادنى. فالفن، وبناء الحالة الثقافية المحلية التي هي تاريخ داخلي ضروري للشعوب، هو مما يهم الانسان الاقل غنا كذلك. وللإنسان الامريكي، منذ نشوء المجتمعات الكولنيالية الامريكية حول الكنائس، أعتياد على التبرع للكنيسة تحول بمرور الوقت لموقف عام يرى أن للمجتمع على الفرد حق.
في المقابل، تسود في أفريقيا ما بعد الاستعمار عقلية "دولتية" ترى أن كل شيء هو من مهمة الدولة. حتى أنه ظهرت بيننا وزارة "للثقافة". وعبر مثل هذا التكوين المشوه يسود اعتقاد في القاعدة أن على الدولة، بعد احتكارها للتاريخ الرسمي، أن تخلق كذلك التاريخ الداخلي للشعب. ولا عجب بعد كل هذا التجريف للمجتمع، أن لا يكره الناس الدولة فقط، بل أنفسهم كذلك.
ظهرت لي ورقة التبرعات هذه (ولها بقية لم اصورها) كوثيقة شرعية يعلن عبرها المجتمع استحقاقه لوجوده. فالعرض صنع في دافنبورت، عبر أبناء دافنبورت، ل أبناء دافنبورت. وهذا ربما التعريف المادي للديمقراطية. الديمقراطية الامريكية التي أعجبت في قرون سابقة الباحث الفرنسي أليكس دي توكفيل، ولا أخفي أنها أعجبتني أنا الآخر.
٣. مرحبا بكم في عوالم سكوت هورتون!
نعرف عادة عن امريكا، نسختها الرسمية، والتي هي، في مجال السياسة الخارجية متغطرسة وتتدخل بصورة مبالغ فيها في شؤون الكل، وكل ذلك حقيقي. إلا أنه هنالك تحت السطح أمريكا أخرى، هي، إن أمعنا النظر، حليف راسخ نحو عالم أقل عنفا وأكثر عدلا. ولاحظت ومازلت ألاحظ، خلال أحداث ثورة ديسمبر وبعدها، أننا ربما لم نتحسس بعد طريقنا لأمريكا الأخرى نبني معها جسورا ثقافية وسياسية. لا نحن ولا بقية الافارقة. وذلك سيكون دائما نتيجة لزهدنا وتفكيرنا السينيكي (البليد) حول العملية الديمقراطية. (نعتقد بصورة غريبة في لا جدوى الديمقراطية، بينما تشير كل الحقائق لغير ذلك).
على العموم أحد أجمل الأصوات الليبرتارية Libertarian المناهضة للحرب في أمريكا هو سكوت هورتون. وسكون مثقف بمعنى الكلمة (مثقف مشتقة من ثقف الشيء فجعله حادا)، رجل ذي لسان سليط، ومنضبط بالحقيقة أيما أنضباط، لا يخشى في الله لومة لائم. لسكوت موقع معروف AntiWar.com ويقدم حلقات راديو دورية منذ سنين طويلة. وله عدة مؤلفات في نقد حروب أمريكا المتعددة بعد نهاية الحرب الباردة. آخرها كتابه Provoked: How Washington Started the New Cold War with Russia and the Catastrophe in Ukraine. وهو دراسة في تاريخ العلاقة الروسية الاوكرانية وكيف أدت تدخلات الولايات الامريكية للوضع الكارثي الحالي.
وعلى خلفية كتابه تمت دعوة سكوت هورتون لمناظرة المؤرخ المعروف نيل فيغيسون، ونيل من أبناء أمريكا الرسمية. وأستمتعت جدا لأن سكوت مسح به البلاط في تعبيرنا، أي لم يفحمه فقط بل وأهانه بالحجة. وربما يحتاج عقل الحرب الامريكية المنفلت لمثل هذه الصفعات ليفيق لحقائق أنه هنالك في العالم أشياء غير المصلحة الامريكية البحتة وغير البحتة وجب مراعاتها حتى لا تنفجر الاوضاع في وجوه سكان الكوكب أجمعين! عموما إلى المناظرة مشاهدة ممتعة:
هنالك مناظرة تاريخية أخرى لسكوت هورتون ضد بوق حرب أخر هو بيل كريستول حول حرب العراق تجدها في هذا الرابط.
في الختام أرحب بالتعليقات على المقال، خاصة إذا كان هنالك أقتراحات لمواد يمكن تغطيتها فيما يخص أي أسبوع في أمريكا، إن كانت سياسية، ثقافية، فنية أو غيرها. أرحب كذلك بالتواصل عبر ايميل المدونة
mahmoud@zalam-blog.com
أخيرا أذكّر بأنه يمكن الأشتراك في قناة المدونة على واتساب عبر الرابط.