في الكتاب "حرب النهر" لكاتبه شيرشيل. تناقض غريب بين الإعجاب المطلق بشخصية المهدي. والإحتقار المطلق "للمهدية". تناقض إنجليزي لا يمكن فهمه إلا بالتعرض الدائم لبلاهات المحللين الإنجليز لل Premiere League.
لتفكيك هذه البداية سأذهب بهذا المقال لمناطق مختلفة وبعيدة عن بعضها البعض. و الحقيقة هذا هو الأمر الذي دفعني للعودة للكتابة: أنا أرغب في بعض من "الونسة" التعبير ب "لغتنا" و ليس "لهجتنا" السودانية الذي يعني الثرثرة ربما أو تبادل أطراف الحديث، حتى وإن بلا هدف. وأقول لغتنا، وليس لهجتنا، لأننا، ورغم أنف الأفريقانيين العرقيين بيننا، "عرب العرب" في تعبير مثقف سوداني وأفريقي عظيم القامة هو صلاح أحمد أبراهيم.
بلاهة المحلل "الأنجليزي":
في الفترة الأخيرة دخلت في حالة غرائبية جدا. بدأت أتابع دوري كرة القدم الأنجليزي لكن ليس عبر مشاهدة المباريات. بالنسبة لي مباراة كرة القدم التي تستحق المشاهدة هي مباراة يعلب فيها أما ريال مدريد أو الهلال السوداني (النادي صاحب الإسم الأصلي وليس نادي الملكية الفاشية السعودي). بالتالي فبدأت أتابع الدوري الإنجليزي عبر سماع او مشاهدة فيديوهات المحللين الأنجليز على اليوتيوب. الأمر الذي بدأ بدافع الملل. ثم تحول لحالة لا نهاية من الإعجاب بالحال الذي انتهت له الإمبراطورية: مجموعات من الأغبياء يتكلمون عن كرة القدم بصورة مستمرة وبجدية تنعكس على لغة مبنية على مبالغات لا نهائية وكراهية مستمرة لأي نجاح أو فرح و تمرغ مستمر في النقد المبالغ فيه للكل بحيث يصبح النجاح في هذا الجو نوعا من "الهرب" وليس الرغبة. لا عجب أذن أنه ليس هنالك أي مدرب أنجليزي جيد ولا عجب أن المنتخب الإنجليزي هو أضحوكة العالم حيث كل أربع سنين تستمتع الأنسانية بأغنية (الكرة عائدة إلى بيتها). وتضحك. فهذا المجتمع الذي أشاهده هو مجتمع كاره للحياة كعملية رغبة محببة، وممارس لها كواجب ثقيل إن لم تحصل فيه على الغنيمة فانت Looser. على كل.. في ١٨٩٨ تعرضنا كسودانيين، لسوء الحظ، لهذا العقل المثير للغثيان والضحك معا، لكن للأسف مع هذا المنصور أصابنا الرب بالطاعون: سلاح النوردينفلت ماكسيم الجديد وقتها. ولا نقول إلا الحمد لله رب العالمين.
شيرشيل في "حرب النهر" يصف المهدية، أو المجتمع السوداني عموما، بإنه مفلس أخلاقيا. بالنسبة لشيرشيل إذن، فمشكلة المجتمع السوداني لم تكن فقره المادي و"الحضاري" فقط. أيا كان معنى كلمة حضاري المقيتة هذه. أو أنهم مجموعات من (المتوحشين) كما كان يصفهم. بل وكذلك، بل وربما لأنهم، فقراء أخلاقيا..
في نفس السياق، ذهبت مؤخرا لدولة غانا. وغانا بالفعل ربما مع جمهوريات أخرى كتنزانيا و بوتسوانا تمثل بعض النماذج التي لا بأس بها لعملية تطور الوجود الأفريقي. على علاتها بالطبع (أذكر أنني حدقت طويلا وبحسرة في ملصق إعلاني لحملة أنتخابية لسياسي غاني، يعلن أنه سوف "يبني مصنعا في كل مدينة" نوع من البجاحة والسماجة الوجودية يمتاز به السياسي التنموي المتعلم جهلا في دولة ما بعد الاستعمار. ماذا سوف تصنع في هذه المصانع في كل مدينة أيها البليد؟ هههه. أكاد أسمع أجابته: أكياس بلاستيك، ومشروبات غازية وأطعمة سامة، وألعاب بلهاء للأطفال وسيارات ربما وأدوية بعد كل ذلك لنعالج بها أثار المصانع، ونكون بذلك زدنا ال GDP و قمنا بإخراج نسبة كذا من الفقر. يجب أستعادة المقصلة للتعامل مع هؤلاء الناس)..
على العموم على هذه العلات ف: ١. ديمقراطية مستقرة، وتأسيس روحي لا بأس به للدولة (أستمتعت جدا بزيارة ميدان النجمة السوداء في العاصمة أكرا، رغم أنني وجدته خاليا، خلوا يشير إلى أستمرار تسرب الأرهاق الروحي للأمة الغانية، إلا أنه كان غاية في الجمال بالنسبة لي). ٢. تنمية فيها نوع أو أخر من التوازن بين الريف والمدينة (أصر نظام نيكروما على أيصال المدارس لكل قرية غانية في الريف، ولا تعنيني هنا المدرسة كمؤسسة تربوية، بل كإشارة لوصول هيكل الدولة للأماكن البعيدة فمع المدرسة تأتي الكهرباء والطريق إلخ). ٣. وحفاظ على أنظمة سياسية وثقافية أصيلة بدرجة مثيرة للأعجاب (الحفاظ على هياكل الحكم الأصيلة لدولة الأشانتي مثلا في كوماسي ولو تشريفيا ما يزال حاضرا في أذهان العامة عندما أسألهم، نادي كرة القدم الأكبر أسمه أشانتي كوتوكو و الكوتوكتو هو حيوان أبو الشوك ذو الرمزية الرفيعة في ثقافة الأشانتي). هذه العوامل خلقت مجتمعا رأيته صحي وحيوي ومثير للإعجاب. لا شيء قادر على علاج روح الأمم الأفريقية من أزمة ما بعد الإستعمار مثل الحرية والديمقراطية. رغم كل علات النخب المغيبة.
في خلال زيارتي لغانا قمت بزيارة قلعة Cape Coast. القلعة مكان عجيب. المدينة كيب كوست مطلة على جنوب المحيط الأطلنطي. مدينة جميلة مركزها هو الشاطيء الصخري بتعرجاته. بجو دافيء جميل و هي من ذلك النوع من المدن الساحلية حيث تشعر بهواء البحر في كل مكان. القلعة تقع على قمة تلة مطلة مباشرة على البحر.
في أساس القلعة هنالك مدخل للسفن مباشرة من البحر. حيث كان يتم تعبئة السفن الأوروبية بالعبيد الأفارقة. من هناك يمكنك تتبع التصميم الصناعي للقلعة: القبو عبارة عن زنازين ضيقة كان يتم تجميع العبيد فيها لمدرة أشهر في أنتظار السفن العابرة للاطلسي بأتجاه العالم الجديد. في أعلى كل زنانة هنالك فتحتات لإلقاء الطعام من أعلى على العبيد، ويتم تجميع أعاداد كبيرة منهم في النهاية في مساحات ضيقة. المساحة التي يستعملها العبيد لكل شيء: الأكل والشرب والتغوط و النوم. لا توجد مساحة أو تصميم يلبي الأحتياجات الإنسانية المتعددة. بل التصميم الصناعي يقوم على فكرة الكفاءة أو الفعالية بلا أهدار للطاقة أو الموارد. تصميم يذكر بمزارع الأبقار الحديثة حيث يتم سجن البقرة في مكان واحد بلا أي مساحة حركة لأغلب حياتها من الولادة إلى لحظة الذبح بحيث لا تؤدي الحركة غير الضرورية للبقرة لأهدار طاقتها و بالتالي الأحتياج لقدر أكبر من الغذاء. أو يذكر ب "أوتشويتز". هايدغر كان سيسمي هذه العملية "عملية الإستهلاك اللا نهائي لكل مادة، بما في ذلك المادة-الإنسان-الخام" أو "التكنيسيتي Technicity" التي هي العملية جوهر "الحضارة الغربية". الحضارة ههههه.
أعلى القبو هنالك مساحات جميلة تجولت بينها واستمتعت بمنظر البحر. غرف كبيرة كان يسكن فيها الأوروبيون. لابد أن الحياة في هذا المكان كانت مما أحسد شخصيا الأخرين عليه: أجواء جميلة، مكان عال بمنظر مباشر نحو البحر، مساحات واسعة لابد أنها كانت تمتلأ بحفلات الشاي وصحبة طيبة.







فوق كل ذلك، في أعلى غرفة في القلعة، وجدت، بالطبع، الكنيسة. المرشد السياحي الغاني، الذي هو شاب بديع، يبدو أنه تخرج من أحدى كليات التاريخ، معرفته بالقصة كلها صلبة وحميمة، وله خفة دم و تهكم حاد لا يحول المسألة إلى نكتة بل إلى كوميديا حقيقية، والكوميديا هي جدليا، كما سيعرف أي كوميدي جيد، هي أعلى درجات الجدة، حيث اللقاء مع الحقيقة لثقله لا يمكن إلى عبر ستار من الضحك الحق. المرشد السياحي قال متهكما وهو يعرفنا على الكنيسة: وهنا في الأعلى، بالطبع، كان يصلي الأوروبيون: أحب جارك!
من على هذه المنصة الأخلاقية. أعلن شيرشيل المسيحي الطيب. أنه ليس للسودانيين أخلاق. عندما تقرأ الإقتباس المسعور لكونراد. أقتباس "أقض على كل المتوحشين" أعني عندما تقرأ الصفحتين قبله. فإنك سترى أن العملية الأساسية في الاستعمار الاستيطاني هي الغباء. ثم القلق اللزج للإنسان الأبيض يدفعه للعته موجها نحو العرق وفقه القوة. وكل ذلك يأتي مغطى بغشاء من المسيحية. هذه هي المعادلة دائما. أنا أعتقد أنه علينا أن نرى ليس لا معقوليتها فقط بل وتفاهتها. لا يمكن هزيمة الشر بغير نظرة كوميدية تراه تافها. في هذا الإطار فإن المعارك الكبرى تنتهي قبل أن تبدأ. (على المحافظين عندنا أن يفهموا هذه النقطة، المعركة تنتهي قبل أن تبدأ، كلحظة صفاء مع الحقيقة، أو لا تنتهي ابدأ. هذه الحالة هي أحدى حالات ال Parallax)
ماذا تفعل أثناء الحرب؟
كنت اسير حول المستشفى في ولاية أيوا الأمريكية. أسير حول المستشفى لأن الجو كان ما يزال مشمسا و كانت نبطشية الليلة في بدايتها ولم تتعقد أموري مع المرضى بعد. والحقيقة أنا لا أحب الوجود داخل المباني. وربما كان هذا سر متاعبي في الولايات المتحدة. برودة الجو تجبرك أحيانا على الوجود في الداخل. ثم ساعات عمل المؤسسات الصحية التي أعمل فيها. أحيانا تمر علي أسابيع بدون رؤية الشمس. أنا الذي نشأت على أن الاستلقاء في العنقريب تحت راكوبة جدي هو نمط الوجود الأمثل. عموما كنت امشي حول المستشفى عندما رأيتا عما خمسينيا عرفت مباشرة أنه سوداني و هو عرف أنني سوداني وسلمنا على بعضنا البعض وتجاذبنا أطراف الحديث ودعاني للأفطار الرمضاني معهم مباشرة وأعتذرت لأنني كنت في زيارة عمل للمدينة لا أنوى البقاء بها طويلا.
هذا يا عزيزي مما لا تدمره الحرب. أي حرب: الثقافة بمعنى اللغة والعقل الجمعي وليس بمعنى منتج المثقفين الأكاديمي، والتاريخ المشترك. التاريخ لا أعني به مجرد تاريخ ما بعد الأستعمار مما خلقت منه مؤسسة السياسية تاريخا مطلقا مقفولا على نفسه مكتملا. (لا عجب أن المتواجد بلاستيكيا داخل هذا التاريخ الضيق سيكون أما علمانيا أو أسلامية بسطحية وسماجة وعنف) بل التاريخ القديم المشترك. الذي عبره يعرف الواحد منا الأخر في ولاية أيوا الأمريكية عبر مجرد النظر في وجه الأخر. هذا أيضا يلغي المقولة السمجة (السودان هو تكوين استعماري قام المستعمر بخلق حدوده)، طيب.. هل قام المستعمر كذلك بتعريفي بالوجه الصبوح الحزين لذلك الرجل الخمسيني على حافة ال Market Street في ايوا سيتي؟
هذا يا صديقي يبقى. التفكير في الحرب، أو حتى المشاركة فيها، يجب أن يبدأ من هنا.
أذكر أنني كنت، في أولى أيام أو اسابيع الحرب، اقود سيارة عبر مناطق جبال الاديرونداك في الشمال الشرفي الامريكي، مرورا بولاية فيرمونت. وهناك توقفت في عاصمة الولاية بيرلينغتون و ذهبت لمتحف القائد ايثان آلان. والمتحف عبارة عن بيت الرجل الذي عاش بين ١٧٣٧ و ١٧٨٩م. تمت اعادة ترتيبه بحيث يطابق شكله الواقعي في تلك الفترة. فتجد فيه مثلا آلات حلج القطن ثم تحويله لقماش وهكذا من معالم حياة الناس وقتها. ويحكي الرجل المصاحب للجولة قصته بتفاصيلها: مشاركته في حرب التحرير، علاقته مع زوجته، عدد ابنائه، كيف كانوا يجلبون الماء في الشتاء من النهر المجاور وهكذا.
وفي تلك الفترة كنت، مثل كل السودانيين، في حال من الصدمة غريب. نحن السودانيون المهاجرون من الجيل الاول، نرتب امرنا في العادة، على أرضية وجودية تقول بأننا سنعود في يوم من الايام. وطال الأمر أن قصر فإن هذه الارضية تعطي الواحد منا شيئا ليقف عليه. الآن تحول الوطن الارضية لشيء في مهب عاصفة كبيرة جدا. بحيث لا يدري الواحد منا لأي وطن سيعود؟ الحرب هي في أحدى تمظهراتها تغيير جذري للأرضية نفسها. ولذلك تسمى الفترة بعدها ب "اعادة البناء" ليس فقط للبنى التحتية. بل كذلك للبنى الفوقية. الشكل المتخيل او الوجداني نفسه للوطن.
وتلك بالتالي كانت فترة صعبة. لكن وجب الخروج منها إلى رحاب العمل التاريخي الإجتماعي.
هذه الحالة من التعرض للتاريخ الامريكي العميق وكيف يتم استدعاءه يوميا في شكل المتحف المذكور أعلاه وحتى في الصحف والمجلات الرائجة (شاهد صورتي الغلاف أدناه صورتهم في محل CVS الشائع في قسم المجلات في يوم واحد). بينما أتت علينا حرب وجودية تهدد أمننا القومي، ونحن لا نرى من تاريخنا غير "دولة ٥٦". جعلني أشعر بأن وراء هذه الحرب الجنونية حروب اخرى ثقافية قضت على الأرضية التي نقف عليها سلفا. وتلك مساحة في التدارك، والعمل، والعلاج الروحي. مساحة تاريخية، ثقافية بالمعنى الأوسع للكلمة Cultural. هي منطقة يمكن استعادة الحياة داخلها بالنسبة لشخص مثلي.
ألتقيت في مكان ما بسبب العمل بشاب سوداني ولد في شمال أمريكا. فهو من عناصر الجيل الثاني. وهذا الشاب بمعايير المجتمع الأمريكي هو غاية في النجاح (التقيته كطبيب يعمل على اكمال تخصصه في السنة الاخيرة). إلا أنه لم يكن بأحسن حال. لغته كانت لا بأس بها. ولو أنه يفضل بصورة تلقائية الحديث بالانجليزية. معرفته بالسودان محدودة، رغم انه زاره مرة واحدة في خلال عزاء جده وزار شندي. عندما عرف الشاب انني سوداني بدأ يشاركني فيديوهات الحرب. مرفوقة بعبارات يائسة من شاكلة: أنظر إلى أهلنا كيف يتعذبون. وأرد معه بالحوقلة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومفهوم هذا المدخل للوطن بالنسبة لهذا الشاب العميق الهجرة. إلا أنني خففت عنه بفتح مداخل أخرى للوطن: بدأت أولا بتذكيره بأننا لسنا بدعا من الامم في تنكب سكة الحرب. فرغم ثقلها علينا وسوء فعلها بنا، إلا أننا لسنا أول أمة تقع في مأزق الحرب. وبالتالي فإن تحويلها لنوع من الطقس الديني المجرد. الشيء المطلق ذو المعنى النهائي القائل بموت الامة. هو مبالغة في الوقوع تحت ظلها. ويبقى وطننا مهما كان أكبر من الحرب. وإلا أصبحت بالفعل "حربا عبثية". ثم ذكرته بأشياء أخرى أفتقدها شخصيا في الوطن. غير أنه محل العطف على المكلومين. مثل التراحم والبركة بين الجيران. وحب الناس لبعضهم. فكنت مثلا لا أجلس لشرب الشاي وحدي إلا وأنتهت الجلسة بحديث لطيف مع شخص آخر ربما تطور بسرعة لعلاقة جيرة أو صداقة. وعلاقات الأهل الممتدة. وكتل الاصدقاء على شارع النيل. والأمن تجاه واحدنا تجاه الاخر بما يسمح للأطفال باللعب في الخارج بغير كثير قيود. وقلت له في أطار تحليلنا لفقرنا، لا يمكن عدم حساب تلك الخصال غير الموجودة هنا. وحال رأيت كل هذا، بدأت تشاهد في الوطن، بالنسبة لمهاجر جيل ثاني مثلك، أكثر من مجرد الأنين. فهو بالنسبة لك أكثر من غيرك ربما كنز في الثقافة سينهل منه ابناءك يوما ما. أن أرادوا الحفاظ على شيء آخر مختلف جذريا عن واقعهم هنا.
ومن مثل هذه المنطلقات الأولية. يبدأ الوطن في التحول من وضع "الأزمة" المجردة. الأمة المكلومة. المعذبون. فقط. لرحابة في الانتماء هي مساحة للعمل والبذل والعطاء (والأخذ كذلك).
بعد فترة قال لي الشاب أن كلامي عن الوطن أعطاه املا وأنه سعد بلقائي. وبذلك ربما تشافينا الاثنان واحدنا بالآخر.
نهاية عصر الدولة الاستعمارية .. نهاية كلية غردون:
في الحقيقة كنت قبل هذه الحرب بفترة دعوت من على منصتي السابقة في الفيسبوك لهدم جامعة الخرطوم. خاصة السنتر. حيث الموقع الاستراتيجي على النيل الذي يمكن أن تقام مكانه حديقة جميلة مفتوحة لكل السودانيين. ويمكن للمؤسسة الميكانيكية (تحولت عموما لمنصة لتخريج التقنيين، والسياسيين عديمي الموهبة) أن ترحل لاي مبنى في المناطق الداخلية غير المرغوب فيها.
هذا المزاج تجاه الجامعة جعلني لا أحزن لأنباء تخريب مبانيها. (يحزن الواحد على الاراشيف والمكتبات وما يمكن ان يضيع من بحوث ألخ. الا أن المؤسسة نفسها هي مما لا يحزن الواحد تجاهه).
على العموم. فإن كان بهذه الحرب أو بصورة عامة، فكلية غردون التذكارية أصبحت في وضع يمكن وصفه بأنه حالة نهائية في الاضمحلال. إذ هي لم تعد لا مركزا ثقافيا. ولا أكاديميا. ولا حتى تقنيا. ينتج المناسب لأحوالنا. فبوجودها تكون الواقع السياسي الاجتماعي الخيالي الذي سبق الحرب. الواقع بافكاره الضحلة. ونخبه المريضة. وكل ذلك داخل عملية تاريخية كانت جامعة الخرطوم مركزها الروحي.
وإذا كنا سنقوم بأي عملية جرد حساب تاريخي. فستجد جامعة الخرطوم، التي لم تستطع إعادة انتاج نفسها خارج كونها مؤسسة استعمارية، في موقع المدان. وربما وجد على هذا الأمر أن يكون أحد أهم نتائج هذه الحرب. فمسألة التكوين الروحي للأمة. مسألة التربية والتعليم. وجب تنظيفها من مخلفات الاستعمار وبخت الرضى. والبدء من موقع تحرري حقيقي في التعليم كمؤسسة اجتماعية عامة للكل حق المشاركة فيها وتخرج من المجتمع نفسه ابتداءا بالفرد وليس عبر اجهزة الدولة. الأسرة و الحلة و المسجد كوحدات اولية. والجغرافيا و الارض كمحددات عليا تحول المعرفة الاساسية لمعرفتنا بذاتنا وليس نحو التقنية.
أما ما يمكننا أن نحتفل به. إن كان ثمة ما يدعوا للأحتفال في هذه الحرب. فهو نهاية عصر. وفي هذا السياق فإن الأمل يعود ليس مثل فترة ديسمبر ٢٠١٨ كشيء جميل خرج فجأة. بل كعملية شاقة. علينا أن نقوم باعادة بناء كل شيء. بداية بأصعب الامور: انفسنا.