كيف يجب أن نتعامل كعرب ومسلمين في الولايات المتحدة مع مخاوف اليمين المسيحي من ديربورن
مقالة في ثقافة الهجرة وتلاقي الثقافات
١. خلفية حول أحداث ديربورن:
ديربورن، المدينة الواقعة شرقي ولاية ميشيغان الأمريكية بالقرب من كبرى مدن الولاية "ديترويت"، هي المدينة الأمريكية الوحيدة ذات الأغلبية السكانية من العرب حيث يسكن المدينة ٥٥٪ من أصول شرق أوسطية. هذه الكثافة السكانية تحولت حسب طبيعة المجتمع الأمريكي الديمقراطية إلى كثافة سياسية وثقافية مشهودة في المدينة، حيث تنتشر المحال العربية بمختلف أنواعها والمساجد وغيرها من أعيان أي ثقافة انسانية. وبالمثل وجد العرب تمثيلا سياسيا كثيفا نسبيا، وزن انتخابي في الولاية ككل، وبالتالي قدرتهم على التأثير على الحزب الديمقراطي بشكل خاص، ووصولا إلى انتخاب السيد عبد الله حمود، الأمريكي من مواليد ديربون نفسها من أصول لينانية، كأول عمدة للمدينة من أصول عربية في ٢٠٢٢.
واحدة من معالم المأسسة الثقافية للعرب و المسلمين في ديربون هو صحيفة تصدر من ديربون منذ ١٩٨٤ بإسم صدى الوطن (تصدر بالإنجليزية كذلك تحت الإسم The Arab American News). وفي بداية هذا العام ٢٠٢٥ قامت مدينة ديربون بتكريم مؤسس الصحيفة ورئيس تحريرها أسامة سبلاني بتسمية طريق بإسمه، الأمر الذي يبدو مشروعا وطبيعيا في الاعراف الديمقراطية الأمريكية وثقافة التميز Meritocracy الأمريكية كذلك، فمثل صحيفة أسامة سبلاني المثابر عليها عصاميا لعقود طويلة، والمبنية على مبدأ حرية الصحافة الراسخ أمريكيا، هي بالفعل نموذج لقصة نجاح المهاجر في بلده الآخر. إلا أن صفو هذه القصة قد تعكر لعدة أسباب:
على خلفية الهجوم الاسرائيلي على لبنان في ٢٠٢٤ والذي اغتالت فيه السيد حسن نصر الله قائد حزب الله اللبناني (المصنف ارهابيا حسب الادارة الأمريكية)، قامت في ديربورن مظاهرات منددة بذلك الهجوم. وفي خلال تلك المظاهرات قام الأستاذ أسامة سبلاني بألقاء كلمة بدى فيها مادحا إن لم نقل مؤيدا للراحل السيد حسن نصر الله. حسب موقع صحيفة صدى الوطن نفسها (يوجد لنك أرشيفي للخبر في ويكيبيديا نقلته هنا ولم اتمكن من ايجاد تعقيب من أسامة سبلاني على كلمته). وأدت مواقف اسامة سبلاني من حزب الله وقائده إلى رد فعل من قبل القسيس الامريكي "تيد برهام" حيث اعترض على تسمية الشارع في كلمة باتت ذائعة قدمها أمام مجلس المدينة:
يتموضع القس تيد براهام وتيار واسع من اليمين المسيحي الامريكي في موقع قلق من ديربورن عموما. فالمدينة أصبحت، بالنسبة لهم، مثالا لما يمكن للمسلمين أن يفعلوه بأرضهم المسيحية تاريخيا، حال وصولهم لمستوى الأغلبية. فلا يعترض اليمين المسيحي على تسمية شارع بإسم مؤيد لحزب الله فقط، بل كذلك تثور حفيظته من الرفع عالي الصوت للأذان في مثل ديربورن وبعد المناطق في مينيابوليس حيث الكثافة من المهاجرين من أصول صومالية. أي تعبير عام عن الإسلام، بما في ذلك المآذن والمعمار الاسلامي في صورة المساجد الكبرى إلخ، سيكون مصدرا لقلق عميق لدى المسيحيين وبالخصوص البروتستانت التبشيريين إن صحت الترجمة ل Evangelicals وبعض أجنحة المسيحيين الكاثوليك. شاهد مات وولش وهو أحد أهم الأصوات اليمينية المسيحية في الولايات المتحدة (كاثوليكي) يعبر عن رأيه بخصوص الأذان:
مثل أي مجتمع ديني، تنتشر بين المسلمين في الولايات المتحدة بعض الفئات الأصولية دينيا، والتي يصعب دمجها في الحقيقة في أي مجتمع حديث (حتى في بلداننا الأم تمثل هذه الفئات عقبة في طريق أي تحديث ديمقراطي مثلا). ويكون أحيانا لمثل هذه الفئات صوت عالي يلقي بظلاله على مجتمعات المسلمين ككل ويزيد من قدرة خصوم هذه المجتمعات على حشد المجتمع الأمريكي ضدها. مثلا شاهد الفيديو أدناه:
٢. ما لا يجب فعله: الرجاء عدم اتباع استراتيجية ال Wokeness ورفض الحوار
قدم عمدة ديربورن المنتخب عبد الله حمود في رده على القسيس تيد براهام (الفيديو في الأعلى) درسا جيدا في كل ما لا يجب فعله كردة فعل. أولا قام العمدة بنعت القسيس بأوصاف مثل متعصب Bigot، عنصري Racist، و كاره للمسلمين Islamophobe. ثم وكأن نعت شخص بهذه الأوصاف في حد ذاته هو أكمال كاف لفريضة الحوار والشرح، انتطلق العمدة للمرحلة التالية مباشرة وهي وصف القيسيس ب "غير المرحب به". وفي نقلة طفولية وتعبر بصورة عامة عن بلاهة وسطحية في التفكير ذهب العمدة للقول بأنه سيقوم بعمل أحتفال في يوم رحيل القسيس عن المدينة.
يبدو أن عبد الله حمود يستند في تطرفه الواضح في الرد على عقيدة جديدة عند الليبراليين الامريكيين مفادها أن أنصار ترمب (أو اليمين المسيحي بشكل عام) ينتمون لما وصفته هيلاري كلينتون ب "سلة مثيري الشفقة" Basket of deplorables. وحسب استراتيجيات الليبراليين الأمريكيين، التي نجحت عموما في بداية الالفية وحتى ٢٠١٦، فإنه يكفي نعت الخصم بصفة من هذه الصفات وإنهاء الحوار معه ومحاولة اخراجه من الفضاء العام بالكلية. وبغض النظر عن ضعف هذه الوسيلة في حسم الصراعات الاجتماعية عموما، ولا أخلاقيتها في نظري، فإنه يجب تذكير امثال عبد الله حمود بأمرين مهمين:
١. يستند الليبراليون الأمريكيون في هذه الاستراتيجية على حقيقة انهم يمثلون ٥٠٪ من المجتمع الأمريكي على الاقل. وفي المدن (حيث عادة ما تنجح هذه الاستراتيجية في اخافة خصومهم) فإنهم يستندون على أغلبية ساحقة. في المقابل يمثل المسلمون والعرب في الولايات المتحدة وفي ولاية مشيغان ككل أقلية ساحقة. بالتالي حتى من الناحية البراغماتية، وبغض النظر عن الخطأ المبدئي، فإن اتباع المسلمين لاستراتيجية الشتيمة كحوار سيكون كارثيا.
٢. إكتشف الجميع منذ العام ٢٠١٦ لحظة إنتخاب ترمب، بما في ذلك اشد الليبراليين الأمريكيين تطرفا، أن هذه الاستراتيجية فاشلة في حشد التأييد الإجتماعي على المدى الطويل. فوصف الجمهوريين بالعنصريين مثلا لم يمنع الشباب الاسود من التصويت لترمب بأعداد أكبر. والدفاع عن مسائل الجندر عبر الشتائم المتنوعة لم يمنع انحسار هذا التيار على كل الأصعدة مؤخرا. فأن نأتي نحن كأقلية إلى هذه الأستراتيجية متأخرين هو يمثابة استعمال الدواء الخطأ … بعد موت المريض.
من المفهوم أنه داخل تحالف الحزب الديمقراطي للحكم بصورة عامة يقع المسلمون بصفتهم أحد الأقليات التي تحاول الليبرالية الأمريكية حمايتها. وهذا التحالف أعطى المسلمين بالفعل بعض الحريات والحماية كما في مينيابوليس وديربورن نفسها. وهو تحالف من ناحية من النواحي نبيل لغض نبيل يخدم الحريات العامة للأقليات بما في ذلك المسلمين والعرب. إلا أنه لا يجب أن يتعلم القائد في المجتمع المسلم، ولا المسلم الأمريكي عموما، من هذا التحالف نواقصه وسلبياته. لأنه في لحظة تكون عزلة مطبقة بين اليمين الأمريكي المسيحي والمسلمين فإنه لن تكون حتى هياكل الحزب الديمقراطي (الهشة عموما) قادرة على حماية حقوق هذه المجتمعات من هجمة أغلبية الأمريكيين البيض.
٣. القبول بحقائق الهجرة كظاهرة تاريخية / ضد عقيدة الولاء والبراء
يجب علينا كمسلمين في أمريكا. بعضنا ولد في هذا البلد والبعض عاش هنا لأكثر من جيل أو أثنين. أن نقبل بصورة عامة بحقائق هذا الارض. وبحقيقة الهجرة عموما كحالة خلاسية (هجين) يقبل الانسان فيها بعالمه الأول نحو عالمه الثاني بلا لجلجة. يجب التأكيد على ثلاثة أمور فيما يخص ما يمكن وصفه بالروح الأمريكية:
١. هذا بلد ديمقراطي. بمعنى أنه من الناحية الفلسفية القانونية، ومن الناحية التاريخية، فإن الانتماء لهذا البلد هو إنتماء لتركيب ديمقراطي حر، هجين من شعوب مختلفة قدم كل منها، داخل الهيكل الديمقراطي، نصيبه من المساهمة. وبالتالي فإن إنفتاح الديمقراطية الأمريكية عبر مبدأ "المواطنة" و "العلمانية" التي لا تشترط جنسا معينا أو دينا معينا للأمريكي يفتح لنا كمهاجرين مسلمين أن نكون مواطنين مثل أي أجناس اخرى من المواطنين.
٢. مع ذلك، فلهذا البلد ثقافات تاريخية أقدم، وجب أحترامها، والتعامل مع مخاوفها المشروعة بالحوار. تخيل مثلا لو جاءت اعداد كبيرة من المهاجرين المسيحيين ألى السعودية أو سوريا أو السودان أو باكستان أو أي قطر عربي او مسلم، سيكون من الطبيعي أن تقلق الاغلبية الموجودة سابقا على ثقافتها وفضاءها العام إلخ وسيكون من غير المعقول أن تلجأ الأقليات الجديدة إلى أخراس هذه المخاوف عبر الشتائم. فلذلك وجب أولا أعطاء الأمريكيين ذوي الأقدمية التاريخية حقهم في الاعتراض ومقابلة هذا الحق بالحوار.
٣. من المفهوم أنه هنالك أقلية متطرفة في اليمين المسيحي لن تقبل حتى الحوار وقد تلجأ لنوع أو أخر من العنف اللفظي أو الجسدي حتى. وهذه تتطلب قدرا كبيرا من الحكمة وضبط النفس أولا وأعطاء أولوية للتهدئة على الانفعال، ثم ثانيا ترتيب قدرتنا على التنظيم والتعاون وحماية أنفسنا عبر القانون وعبر التأثير الديمقراطي (عبر الكثافة الديموغرافية وغبر قدرتنا على أقناع أطياف واسعة من الامريكيين المعتدلين).
تفتح الهجرة لبلد علماني قانونا، مسيحي اجتماعيا، مثل أمريكا، سؤالا واسعا حول قدرتنا كمسلمين على الانتماء لمجتمعات غير مسلمة في أغلبيتها. ويعلم الواحد منا أنه هنالك قراءات أصولية تقول بعدم أمكانية ذلك، إلا أنه آن الوقت لطرح هذه القراءات جانبا والقبول بالحقيقة الأخلاقية البسيطة: من المنظور الكلي فإن كل البشر اخوة. وربما كانت وقفة الطلاب الامريكيين من غير العرب وغير المسلمين مع غزة أشارة لهذه الحقيقة. يشعر المرأ أنه أقرب، وبكثير، لهؤلاء الطلبة الأمريكيين المتظاهرين من أجل حق الشعب الفلسطيني منه لكثير من المجتمعات العربية التي طبعت عمليا وأخلاقيا مع الصهيونية.
٣. التعلم من تجربة اليهود الأمريكيين:
وصلت طلائع اليهود إلى أمريكا قديما في القرن السابع عشر هروبا من تطرف المسيحية الكاثوليكية في ملاحقتهم في أوروبا (وذهبوا بالمناسبة كذلك لشمال أفريقيا بكثافة حيث كانت المجتمعات المسلمة وقتها أكثر تسامحا مع اليهود). لكن استمر اليهود في كونهم أقلية صغيرة جدا حتى نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين حيث أرتفع عددهم إلى حوالي ٢ مليون. ومثلما مثل تاريخ اليهود في أمريكا حالة قصوى من النجاح الاقتصادي والاندماج الاجتماعي، إلا أنه كذلك مثل حلقات عصيبة من الرفض ومعاداة السامية.
ومن المعروف أن العلاقة المسيحية-اليهودية كانت شائكة، إن لم نقل مشتبكة، لفترات طويلة من التاريخ. مما صعب حياة اليهود في أوروبا بصورة قاربت الاستحالة مع صعود النازية والفاشية في منتصف القرن العشرين، ولم يخلُ المجتمع الأمريكي، رغم أنه كان عموما أكثر تسامحا من نظيره الاروبي، من عداء مستقر لليهود على أسس دينية أحيانا وعنصرية في أحيان أخرى خاصة مع الصعود الثاني للجماعة العنصرية كو كلوس كلان KKK في بدايات القرن العشرين.
إلا أن عاملين مكنا اليهود من الاندماج والنجاح في المجتمع الأمريكي:
١. تمكن اليهود المعتدلين Reformed من نشر فكرة ضرورة الإندماج في المجتمع الأمريكي وإلغاء التعارض بين اليهودية والأمركة عموما.
٢. قدرة المجتمع اليهودي العالية على التنظيم ومساندة بعضهم البعض بحيث لم يتأثر المجتمع سلبا من بعض أنواع العزلة التي فرضت عليهم وفي نفس الوقت طوروا قدرة عالية على الدفاع الفعال الهيكلي عن النفس. يشهد على هذه القدرة منظمات مثل منظمة (رابطة مكافحة التشهير Anti Defamation League) المتأسسة في العام ١٩١٣ لمحاربة العداء للسامية، والتي ما تزال تلاحق حالات العداء للسامية بصورة بالغة الفعالية وتحشد عزائم اليهود والمجتمع الامريكي ككل لكره العداء للسامية. (مفهوم لدي أن هذه المنظمة تحولت كذلك لمنظمة مؤيدة للصهيونية ولدولة أسرائيل كجزء من ما أسماه بروف ميرشايمر "اللوبي الاسرائيلي" في كتابه المعروف لكن علينا عموما أن نتعلم النظر للأمر من زواياه ومعانيه المختلفة، كلفنا ضيق العقل والتفكير في اتجاه واحد كثيرا).
٤. "الحضارة اليهو-مسيحية": نظرة في التلفيق الديني والأدلجة اليمينية
برزت مؤخرا بين بعض أعمدة اليمين المحافظ في أمريكا عبارة "القيم اليهودية-المسيحة" Judeo-Christian Values أو "الحضارة اليهودية-المسيحية" خاصة بين مؤثرين مثل بين شابيرو اليهودي الصهيوني المعروف وعالم النفس الكندي المحافظ جوردن بيتيرسون. هذه الحميمية في الحديث عن العلاقة بين اليهودية والمسيحية هي ربما أجد أنواع التعاون السياسي بين اليمين المسيحي واليهودي، خاصة مع الانحسار العام لتأييد اسرائيل وضعف المحافظين الجدد المستمر منذ كارثة حرب العراق.
إلا أن لهذه الحميمية تاريخ بدأ ربما مع نهايات الحرب العالمية الثانية. حيث قامت الكنيسة الكاثوليكية، بعد مأساة الهولوكوست وما فعله النازيون باليهود من مجازر يندى لها الجبين، ومآسي اليهود في أوروبا عموما في القرن العشرين، قامت الكنيسة الكاثوليكية بمراجعة موقفها من اليهود في ستينات القرن الماضي. ثم مع اشتداد الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي وجد اليهود والمسيحيون المتدينون عدوا مشتركا في الشيوعية الالحادية الصاعدة في شرق اوروبا، مما دفع المؤسسة الأمريكية الرسمية في أكثر من موقف، منذ زمن الرئيس روزفلت وحتى ريغان، للحديث عن القيم اليهودية المسيحية في مقابل الالحاد السوفيتي.
لهذه العلاقة كذلك سبب سياسي. فتزايد تأثر اليهود في المجتمع الامريكي عموما وخاصة ككتلة سياسية جعل من عبارة مثل "القيم اليهودية المسيحية" قيمة انتخابية. ثم مع صعود التيارات الصهيونية وازدياد قوتها سياسيا خاصة منذ حرب ١٩٦٧ وتكثف علاقة اللوبي الإسرائيلي بالصهيونية المسيحية، وجدت هذه القيم معنى آخر.
أخيرا، في مقابل المهاجرين المسلمين الجدد، وجدت شبكات المحافظين (كما هو واضح من حديث جوردن بيترسون هنا) في العبارة تفريقا دينيا وحضاريا بين اليهودية/المسيحية من جهة وبين الاسلام العصي على العلمنة السياسية من جهة أخرى.
وبينما يمكن الموافقة على المصطلح من الناحية التاريخية العلمانية، وأقف شخصيا مع مثل هذه القراءة، بإعتبار أن المسيحيين واليهود ككتل انسانية تاريخية قد تلاقحت في أوروبا وأمريكا ثقافيا بحيث أنتجت خلاسية (هجين) تاريخي معين. (وتفتح هذه القراءة الباب للحديث عن امتزاجات أخرى: الهنود الأصليين، الإسبان، الأفارقة العبيد ألخ، كلها ساهمت في تشكيل التاريخ الامريكي، ومن ثم أمكانية الحديث عن مساهمة مستقبلية شبيهة للمسلمين في هذا التاريخ). على الصعيد الآخر يصعب النظر للتفسير الديني لمثل هذه العلاقة (من يهودي أصولي مثل بين شابيرو مثلا) بصفته أي شيء غير نوع أو آخر من التلفيق.
فمن الناحية اللاهوتية فالتناقض بين المسيحية واليهودية جذري. وإلا لما كانا دينين منفصلين. فالمسيحية تنسخ اليهودية ولا تحتويها. وذلك بالطبع ليس دعوة لصراع بين المسيحية واليهودية، فكل الأديان في النهاية تدعي أنها تنسخ غيرها أو هي تفقد معناها، ومع ذلك يتعايش الناس بسلام ويدعوا بالحسنى بعضهم البعض كل يعتقد في دينه الخلاص.
ومن ناحية أخرى إذا كان هنالك تقارب ديني من الناحية اللاهوتية فهو بين الاسلام والمسيحية. فالاسلام جاء بوضوح كإكمال لسلسلة الرسالة وتجديدا لها مما شابها من تحريف، ويحتل النبي عيسى عليه السلام مكانة لا تفوقها إلا مكانة النبي محمد (ص) في الاسلام. ثم إنه توجد في الطوائف المسيحية، ومنذ عصور المسيحية الأولى، طوائف دعت لتفريق لاهوتي جذري بين المسيح والرب، يقترب من تفريق المسلمين (ولا يماثله بالطبع) مثل جماعة الأيريسيين في القرون المسيحية الأولى، والتي ما تزال تعاليمها تدرس بين جماعات شهود يهوذا المعاصرة على سبيل المثال. وكان النبي محمد (ص) في بداية صراعة مع الأمبراطورية الرومانية قد أشار لهذا التقارب بين اللاهوت الأيريسي و المسلم في رسالة معروفة للملك هرقل.
فإذا كان هنالك مساحة لقيم مشتركة، لاهوتيا، فهي ربما أقرب بين المسلمين والمسيحيين. إلا أنني عموما أعتقد أن مثل هذا الطرح، دينيا، هو تلفيق. وهنالك على الصعيد الآخر تاريخ طويل ومثمر من التعايش المسلم المسيحي في الشرق الأوسط من مصر إلى فلسطين وجب علينا كمسلمين النظر أليه كسابقة وكمدرسة لحسن الجوار. بل و التلاقح الحضاري والاندماج كذلك.
٥. عن الحق في التعبير و الحق في الحكمة:
يجب أن نتعلم كعرب ومسلمين أن مثل مهمة الهجرة والنجاح فيها هو مما يتم عبر الدماثة وعمق التفكير وليس فكرة التعارك في غير معترك.
فصحيح أن أمريكا قانونيا تتيح الحق في التعبير والحق في الممارسة الدينية كحق كفله الدستور في بند وثيقة الحقوق الأول. وصحيح أنه من الناحية النظرية يمكن لأحدنا أن يؤيد حزب الله أو ينعي الراحل حسن نصر الله تمجيدا إلخ (قانونيا يمكنك التعبير عن التضامن حتى مع من تعتبره الحكومة أرهابيا، لكن لا يحق لك التضامن معه فعليا بدعم مالي ألخ).
إلا أنه كذلك من حق الامريكيين الآخرين علينا إجتماعيا أن نمارس هذه الحقوق في داخل بوتقة الثقافة العامة احتراما لها. فما نعرفه نحن عن تاريخ فلسطين ولبنان والاستعمار ألخ مختلف عما يعرفه الامريكيون في عمومهم. خاصة في ظل اعلام لم يكن لنا (ولا لعموم الامريكيين) مساهمة في خلق خطه العام أو ما يسعى لخلق الاجماع حوله. وبعض الامريكيون لم يرو منا حتى وقت قريب سوى ١١ سبتمبر.
في مثل هذا الجو يكون من غير الرشد ابتسار المسائل في لحظات الشحن بالقول قطعا بأن "حزب الله منظمة مقاومة" مثلا. فما يمثله حزب الله من تاريخ بالنسبة لسكان الجنوب اللبناني مثلا، والذين نشأ بينهم الحزب في لحظة أحتلال قاس، مختلف عما يمثله الحزب للأمريكيين الذين عرفوا عنه أول الأمر عبر أخبار التفجير الانتحاري للسفارة الامريكية في لبنان في ١٩٨٣ وغيرها من التفجيرات الانتحارية التي نسبها الاعلام الامريكي لحزب الله. ثم ربما بالنسبة للعربي المشغول بالتفكير في صراعه الوجودي مع اسرائيل تمثل افكار حزب الله الثيوقراطية وعقائده متطرفة اللهجة تجاه اليهود أمرا ثانويا، لكنها في المقابل رئيسية عند الانسان الامريكي وأعلامه وهكذا.
وهنالك كذلك الحقيقة. إن بعض تكتيكات المقاومة اللبنانية والفلسطينية كانت بالفعل ارهابية (مثل التفجيرات الانتحارية في بصات مدنية مثلا). مثل تكتيكات المقاومة الفيتنامية والسيريلانكية وغيرها من تشكيلات حروب الغوريلا ضد قوى نظامية تفوقها قوة بكثير. ويمكن للواحد منا أن يقر بذلك. وفي نفس الوقت أن يقر بما باتت الانسانية جمعاء تشهد عليه: أسرائيل كدولة تمارس ارهابا منجيا ضد جيرانيها مما هو أسوأ بكثير إذ هي قوى عسكرية وتكنولوجية قادرة على الابادة. مثل هذا الاستناد على الحقيقة أكثر حصافة في رأيي من جرنا كمجتمعات لمتاهة الدفاع عن حزب الله.
٦. دعونا نخلق من ديبرون نموذجا للتعايش والازدهار بدلا عن الصراع والعزلة:
ساءني على سبيل المثال أن المجتمع الأمريكي عرف عن أسامة سيباني كلمة ربما جاءت عاطفية وغير محسوبة عن حزب الله بينما لم يعرف عنه مثلا مثل هذه الوطنية الامريكية في بلد ترعرع وازدهر فيه كانسان:
إذا نجحت تجربة المجتمع العربي المسلم في امريكا في الازدهار اقتصاديا وسياسيا داخل الديمقراطية وعبرها، فإن ذلك لا يمثل تحولا ممكنا فقط في سياسة قوة عظمى مثل الولايات المتحدة تجاه منطقتنا بل وكذلك تحول ثقافة عدوانية وامبريالية غير مبررة للغرب عموما تجاه بلداننا. فللمهاجر قوة تغير الثقافة عبر جسده الاجتماعي. عبر حقيقة وجوده كجسد وكثقافة.
وبينما جئنا من بلداننا المكونة ما بعد استعماريا (ومنذ الدولة العثمانية) كمعسكرات شمولية، بلا خبرة ديمقراطية، فإنه يمكننا هنا أن نكتسب ليس فقط قدرة على ممارسة الديمقراطية بمعناها الواسع فقط (ليس كمجرد أنتخاب فقط، لكن كما فهمها أسامة سيباني تحديدا، كقدرة على الاعلام والكلام والنشر والنقاش وتغير الافئدة) بل وكذلك كقدرة على ممارسة الديمقراطية ضمن إطار علماني مفتوح لاعراق وأجناس وديانات مختلفة.
وجد العربي في أمريكا نفسه أرفع صوتا مع غزة من العربي في دول شرق أوسطية عديدة. ووجب علينا أن ننظر لهذه الحقيقة ربما بأبعد من مجرد استعمالها. فهي كذلك حقيقة تاريخية ضم حقائق كثيرة هي في مسيرة أنفسنا و بلداننا للحرية والسلام.
أرجوا أن تقوم بالأشتراك في المدونة. أرحب بتعليقات القراء في الأسفل. وأرحب كذلك بالتواصل عبر ايميل المدونة
mahmoud@zalam-blog.com
أخيرا أذكّر بأنه يمكن متابعتنا عبر:
Website: Zalam-blog.com
FB: Facebook.com/mahmoud.elmutasim
X: X.com/zalam_blog
YouTube: Youtube.com/@shawla-podcast
Telegram: T.me/mahmoud_elmutasim
WhatsApp: Whatsapp Channel