رسالة إلى عضوية تيار المستقبل: في نقد تحليل ثورة ديسمبر ك "ثورة ملونة"
أنشر المقالة (مضاف لها بعض المراجع بغير تغيير في متنها) كنموذج لبعض العمل الثقافي الغائب في الحركات الجديدة
رسالة إلى عضوية تيار المستقبل: في نقد تحليل ثورة ديسمبر ك "ثورة ملونة"
محمود المعتصم
بتاريخ ٣٠ مايو ٢٠٢٣
السلام عليكم،
بدأ أود أن أقول أن ما يدفعني لكتابة هذه الرسالة هو المساهمة في دعم العمل السياسي والاجتماعي الذي تقوم به مؤسستكم. ثم كنوع من رد الجميل على استضافات قام بها بعض من أعضاء الحركة لشخصي وهو أمر أثمنه وأشكرهم عليه. وأما سبب اهتمامي بدعم تيار المستقبل فهو ملاحظتي من بعيد (لا أعتبر نفسي ملما بتفاصيل عمل الحركة) لنوع من الممارسة الوطنية، المنحازة لقضايا العدالة الإجتماعية والكادحين، المبنية على أهمية الاستقلال الوطني عرفت به الحركة. وأرى ذلك كافيا لأن تكون الحركة تيارا شابا من ما أسميه "قيادات الصف الثاني السياسية" والتي أعول، على المدى البعيد على كسبها ومساهمتها في إخراج بلادنا من مرحلة "الإرهاق الخلاق" حيث الانسداد السياسي وتوازنات الضعف، لمرحلة المشاريع السياسية الاجتماعية الرصينة. أما تعويلنا على التيارات الشابة (من حيث العضوية ومن حيث التكوين) فهو قرين، وبالضرورة، بقدرتها على النقد الذاتي والتطور نظريا وعمليا. فجدل النظرية والممارسة Praxis، هو أصل النمو المؤسسي للتيارات والأحزاب الطليعية.
ــــــــــــــ
يتأسس تحليلي العام للواقع السوداني على أساس فكرة مشروع "الثورة الوطنية الديمقراطية". الملخص ربما بشكل جيد في كتاب أستاذنا عبد الخالق محجوب "الماركسية وقضايا الثورة" (وهنا). وفي أماكن عدة أخرى وحمله أستاذنا عبداللهي علي ابراهيم كمشروع ثقافي رئيسي طوال الأربعين سنة الماضية وكتبه مفصلا في كتب ومقالات سيكون من السهل على عضويتكم الحصول عليها. وأرجوا أن لا تقود المصادر "الشيوعية" المذكورة أنفا لتصور تبسيطي بأن مشروع الثورة الوطنية الديمقراطية هو مشروع ماركسي حصرا. بل هو تحليل مادي جدلي لواقع الدولة (أو بالأصح المجتمع) ما بعد الاستعمارية والسودانية خصوصا، سوداني أصيل. ويكفي أن نقول بأننا لم نسمع عن هذا المشروع في الصين الشيوعية مثلا.
أحدى شروط تحقق مشروع الثورة الوطنية الديمقراطية، هو وجود روافع سياسية (مؤسسات) تحمله بوعي مفارق لمجرد الكلام العام الاخلاقوي عن الديمقراطية. وتقوم هذه الروافع فيما تقوم به، بالعمل الواعي المنهجي لتأسيس شروط تحقق المشروع، ومنها مثلا العمل على تكوين الأجسام القاعدية التي تعبر ديمقراطيا عن الناس وتوطن المنهج الديمقراطي بينهم، رصد والتعامل مع الثورة المضادة بمبادرة وليس رد فعل، رصد والتعامل مع القوى الأجتماعية التي ليس لها مصلحة في تحقق المشروع (وهذه عرفت عندكم بالقوى الأرثية)، ألخ.
لكن واحدة من أهم عوامل تكون هذه الروافع (وتحقيق مهامها) هو التموضع الصحيح داخل الخطاب. ففي البدء كان الكلم. ويمكن القول كذلك بأن للفكرة تحقق مادي مباشر دائما. وهذا مصدر بعثي لهذه الرسالة.
فليتكون فاعل سياسي قادر على التموضع الصحيح والعمل من أجل تحقيق مشروع الثورة الوطنية الديمقراطية. فهنالك درجة عالية من القدرة على التوافق ستكون مطلوبة. فالقوى الأرثية تعتمد في أسلوب عملها بوعي أو بغير وعي، على مبدأ فرق تسد. وطالما بقيت الصراعات الداخلية تنخر جسد المجتمع السوداني بلا تلطيف فستكون هذه القوى قادرة دائما على:
١. ضمان استمرار دائم لوجودها وتأثيرها. يخيف كل شق فيها مريديه بالشر المحدق من قبل "أخر شرير" ما.
٢. الوصول للسلطة منفردة تحت دعاوى ضرورة تخليص الوطن من الآخر الشيطاني المتربص به. (وذلك سر تحالف هذه القطاعات المستمر مع الجيش، فبألغائها لمبدأ العمل الديمقراطي المبني على توافق أو تعاقد اجتماعي تأسيسي، تصبح مضطرة لعقد تحالف مع الجيش يتيح لها التعامل مع خصومها بالعنف).
ـــــــــــــ
لذلك في تحليلي، فإنه لتتمكن قيادات الصف الثاني من التحول لمستوى أكثر تقدما في تمثيل وقيادة قطاعات أكبر من الشعب. فإن عليها أختراق جدر نفسية عدة بحيث تستطيع أن تموضع نفسها في موقع يجعل التوافق ممكنا. وذلك تموضع داخل الخطاب ضروري للتأسيس لتموضعات أخرى على الأرض.
ــــــــــــــ
أرى أن أكثر ما قد يمنع تيار المستقبل من التموضع الصحيح خطابيا هو تحليل عام يقول بأن ثورة ديسمبر "ثورة ملونة". أذ يفارق هذا التحليل الدقة و الصواب. ويخلق بالتالي شرخا بين التيار وبين القوى الأجتماعية التي أنتجت ثورة ديسمبر لن يمكن تيار المستقبل من تحقيق أقصى ممكنه تأثيرا في تبعات هذه الثورة بالتالي. فهو بصورة من الصور يضع التيار خارجها.
ــــــــــــــ
ما هي الثورات الملونة؟
تعبير الثورات الملونة هو تعبير فضفاض من منتجات الأعلام ورغبته أحيانا في تسميات عامة عابرة، وبراقة، تسهل له وصف أشياء ربما يصعب أجمالها. لكن ربما يمكن القول بأن ما يقصد بالثورات الملونة هو مجموعة الثورات في الثمانينات والتسعينات التي حدثت في جمهوريات الأتحاد السوفيتي السابق و يغوسلافيا. (رغم أنه تم وصف الثورة الفلبينية بالملونة كذلك، ومؤخرا ثورات متنوعة عربية).
بعيدا عن الوصف المباشر. فيشير الإسم لنوعين من التصورات حول هذه الثورات. الأيجابي يأتي من الأعلام الغربي. فعنده الثورات الملونة تشير للناصع الجميل وخروج شعوب المعسكر الشرقي من ظلام الإشتراكيات السلطوية لنور الديمقراطية الليبرالية. النقاد في المقابل يشيرون للاسم بإعتباره يشير لثورات مصنوعة مخابراتيا في أطار الحرب الباردة وما تلاها. وربما يشير هؤلاء النقاد بأصابع الأتهام للثورة الأوكرانية أكثر من غيرها. فلم تحفل ساحات الإعتصام الأوكرانية (ضد حكومة ديمقراطية) بمعالم نيو نازية فقط، بل تم استبدال الرئيس المنتخب (يشكك معارضوه في نزاهة انتخابه او شرعيته عموما) برئيس اخر تم أختياره في اروقة صنع القرار الأمريكية كما تشير تسريبات رائجة مؤخرا لفكتوريا نولاند الموظفة المرموقة في الخارجية الأمريكية وقتها.
و يجب التركيز هنا على امرين: الأول هو حيوية المصالح الأستراتيجية الغربية في دول المعسكر الشرقي. إن كان أثناء الحرب الباردة أو بعدها. وهي حيوية نرى اليوم مقدار البذل غير المعقول فيها ممثلا في المساعدات العسكرية الأمريكية و الأوروبية لأوكرانيا أثناء الحرب. فدول المعسكر الشرقي هي جزء أساسي في منظومة الأمن القومي الأوروبية. وأستثمرت الولايات المتحدة حوالي ٥ بليون دولار في مشاريع "داعمة للتحول الديمقراطي" ابان الثورة الأوكرانية.
الأمر الأخر الذي يجدر التركيز عليه هو أن "نقاد الثورات الملونة" ينتمون عموما لليسار الأمريكي و الأوروبي. وغالبا يكونون من الراديكاليين فيه. وهم أشخاص جيدون يمكن الأستفادة منهم. إلا أننا لا يجب أن نقع في فخ النقل بالنسخ و اللصق. فلهذا اليسار عداء شديد مع المنظومة Establishment قد يدفعه أحيانا للمبالغة في النقد في إطار صراع حاد يجد هذا اليسار نفسه مغبونا فيه أكثر مما هو منتصر. فالقول مثلا بأن الثورة في بولندا أو تشيكوسلوفاكيا هي ١٠٠٪ من صنع المخابرات الأمريكية مفهوم في أطار نقد داخلي للنظام الأمريكي. لكنه مع ذلك يغمط حق هذه الشعوب في أن تكون حقيقة على أرضها. وتسود بين اليسار الأمريكي الراديكالي مثلا، نزعات متطرفة في التحليل كهذه ستراها عندما تسمع أحدهم يدافع عن النظام الصيني بإعتباره أكثر ديمقراطية أو مساويا من حيث السلطوية للنظام الأمريكي. أنت كسوداني ليس عليك أن تأخذ بتحليلات الأخرين بما فيها من تحيزات نتيجة غبن. بل أن تستفيد منها من موقعك الخارجي الذي يسمح لك برؤية الجيد و السيء فيها.
الوصف الثالث لكلمة ملونة هو وصف أجتماعي. يقول بأن من صفات الثورات الملونة انها تأتي بلا بديل إجتماعي سياسي واضح. وبتصورات عامة، وسطحية أحيانا، عن الديمقراطية، الليبرالية، السوق الحر، الحريات العامة ألخ. (أي التصورات الغربية للمجتمع الجيد التي تنشر إعلاميا وتهيمن عبر شبكات مؤسسية تسمى المجتمع المدني) و تعتمد في عملها على فرضيات عمل اللا عنف التي روج لها مثلا جين شارب في كتاب معروف.
وهذا النقد هو كذلك نقد يساري على خلفية أن الثورات "غير الملونة، أو الثورات الجد" كانت ثورات بلشفية، ماوية، كوبية إلخ تأتي بنظم إجتماعية سياسية جديدة كليا. وخارج فلك الديمقراطية الليبرالية.
ــــــــــــــــ
هل الثورة السودانية ثورة ملونة؟
بناءا على الشرح أعلاه. فإنه سيكون من الغرابة وصف الثورة السودانية بالملونة لا من حيث الوصف الجغرافي أو الجيو سياسي. ولا من حيث الوصف المتعلق بضلوع المخابرات الغربية فيها.
و يبقى الوصف الأخير الاجتماعي. لكن هذا الوصف هو نوع من النقد السلبي العام. الذي برع فيه اليسار الماركسي مؤخرا وجعلوه بديلا عن العمل الأيجابي: يتهم هذا النقد الشعوب بأنها ملونة ساكت لأنها تأتي للثورة خالية من "ما العمل" أو الحزب الطليعي القادر على قيادة تحولات جذرية. لكن مهمة القيادة ليست في يد الشعوب. بل في يد المجموعات التي تتصدر لهذا النقد. فهي بذلك كمن يرمي باللائمة على تقصيره هو في رقبة غيره.
وهذا النقد سيصح بحق أي ثورة في أي مكان في العالم لأننا حاليا في وضع أصبحت فيه السرديات الإجتماعية المغايرة جذريا (الشيوعية أو الأسلامية أو القومية الشوفينية) في حالة نضوب تام. وبالتالي فإن أي عمل ثوري سيكون في أطار نوع أو أخر من الفراغ. وبذلك تصبح كلمة ثورة ملونة مناسبة لأي ثورة. وهذا يجعل التعبير ذو قدرة تحليلية منخفضة رغم أنه مناسب للاستهلاك الاثاري.
ــــــــــــــــــ
ما هي الثورة؟
يجدر في المقابل الدخول في نقاش عن ما هي الثورة أساسا. وذلك نقاش درجت النخبة السودانية على الاستثمار فيه. فالنخبة السودانية تاريخيا ذهبت بدل الإستثمار في الثورة لنقدها بالكلية. فما تفشل النخبة فيه (تحويل الثورة لواقع أجتماعي جيد) تلقيه نظريا على الثورة نفسها. فستجد على سبيل المثال أن المؤرخة السودانية فدوى عبد الرحمن علي طه، ذهبت لأن ثورة أكتوبر ليست بثورة. ويجب تسميتها أنتفاضة أو أي اسم اخر. لأن الثورة عندها لا تحدث إلا عندما تحقق تغيرات اجتماعية و سياسية جذرية. وذلك تصور يحول الثورة من وصف أجتماعي لجائزة أو وسام. فأنت تقوم بثورة عندما تنجح، عندما تفشل تصبح انتفاضة. وبالتأكيد فإن هذا النوع من الثقافة يمكن أعتباره نوعا من الركاكة التي تريد حل المشكلة الاجتماعية عبر اللغة.
في تقديرنا فالثورة هي وصف إجتماعي وليست جائزة أو وسام. وبالتالي فهي غير مرهونة بالنجاح والفشل بل بتحقق شروطها على الأرض. ذهب الشيوعيون السودانيون لتعريف الثورة في أطار عملهم الرصين تعريفا جيدا: الثورة هي حالة تحدث عندنا تفقد الطبقة الحاكمة القدرة على الحكم، ويصل في نفس الوقت الشعب لحالة رفض عام لها.
سترى أن هذا التعريف هو تعريف يربط النظرية بالممارسة. فهو تعريف يحضر الكادر للعمل لتحقيق شروط معينة ما. لتقوم الثورة. ولا يبشر الكادر بثورة نقية جميلة متخيلة. بل بحالة إجتماعية معينة النتائج التالية لها هي نتاج لفعل الكادر و ليس ترقبه وأنتظاره. فأنت تعمل على تحقيق شروط قيام الثورة (أفقاد الطبقة الحاكمة القدرة على الحكم، وتعبئة الشعب ضدها) ثم تعمل لشروط أخرى تؤدي لإنجاح الثورة.
للأستزادة حول هذا النقاش أحيل القاريء لكتاب مهم جدا للكاتبة النرويجية الينا فيزاديني حول ثورة ١٩٢٤ عنوانه Lost Nationalism ناقشت الكاتبة في مقدمته اللغط الثقافي السوداني حول تعريف الثورة. ولعبد اللهي علي ابراهيم كذلك كتابات جيدة في هذا الشأن.
ـــــــــــــ
نقول إذن أن ما حدث في ديسمبر هو ثورة و كفى. وفهمنا من الأعلى أن كلمة ثورة هي وصف إجتماعي وليس جائزة يجب عليكم سحبها من الناس بكلمة "ملونة". ثم فهمنا أن وصف الثورة الملونة اما يصح لأي ثورة حدثت خارج فترة الثورات الحمراء و بالتالي فهو بلا معنى واضح. أو يصح فقط لحالة جيوسياسية معينة متعلقة بدول المعسكر الاشتراكي.
ـــــــــــــ
يتبع من ذلك أنه لا يصح كذلك القنع من "قوى ثورة ديسمبر" الإجتماعية. مهما تعرضت للتشوهات النخبوية (أقول البرجوازية الصغيرة). فمثل هذا القنع هو استسلام ليس في محله في مقابل قوى أجتماعية خرجت لأسباب وطنية وبأفكار يمكن البناء عليها. مثلا: فكرة لجان المقاومة فكرة جيدة، ركبت على ظهرها قوى برجوازية صغيرة فحولتها في أتجاهات غير سليمة. نقائية متطرفة أحيانا. فوقية و حتى أنتهازية أحيانا. و سلطوية أحيانا أخرى. لكن هذه التشوهات لا يجب أن تبعد الفاعل السياسي عن أصل هذه التنظيمات وهو سعي الشباب في الأحياء للدخول للسياسة و العمل القاعدي في أطار مساحة مادية تسمى المدينة. يمكن قول نفس الشيء حول النقابات. ونفس الشيء حول المنظمات النسوية والشبابية الفنية أو حتى الثقافية والثقافوية. كل هذه التشكيلات التي نتجت عن ثورة ديسمبر هي نتاج لمشكلات و تطلعات، و يجب مخاطبتها و التعامل معها و تصحيحا. ليس القنع منها تحت مظلة أنها علامة "التلون". فذلك يكون استسلاما وليس عملا سياسيا إجتماعيا.
كذلك فمخاطبة ثورة ديسمبر كثورة وطنية بعلاتها مهم في أطار التوافق. فالواقع الذي نعيشه اليوم هو نتاج هذه الثورة وتعقيداتها. والأغتراب نفسيا عن أجزاء من الفاعلين فيها بوصفهم بالملونيين لن يسمح لتيار المستقبل بالتموقع الصحيح داخل الخطاب و من ثم على الواقع.
أشكر للقاريء إطلاعه. وأشكر لكم حسن سعيكم الوطني عموما. والله ولي التوفيق