اسبوع ١٩ فبراير ٢٠٢٥
أقرأ مقدمة السلسلة:
١. رحلة في الجنوب الغربي: الجغرافيا كنعمة
منذ طفولتي المبكرة ولظروف عمل الوالدة أعتدنا الترحال من مكان لمكان في سلطنة عمان كل حوالي عامين. الأمر الذي جعلني أقضي طفولتي بين أربع ولايات مختلفة في سلطنة عمان، وفترات غير قصيرة قضيتها في بيت جدي لأبي في أمدرمان وبيتنا في أركويت في الخرطوم. أمتزجت هذه التجربة الأولية مع تجارب أخرى لاحقة في سنين الجامعة زرت فيها تونس ولبنان والهند، فجعلتني مدمنا للترحال، بشقيه السلبي، أي الشعور بغربة مستمرة في كل مكان، والايجابي، أي التمتع الروحي برؤية الجديد دائما.
أذكر في هذا الاطار محاولاتي والصديق العزيز عمرو حسن لترتيب زيارة لمحمية الدندر في أخر فترات وجودي في الخرطوم بين العامين ٢٠١٤ و ٢٠١٦. ولكن ولأننا في السودان رتبنا بلادا مبعثرة تستهلك الانسان ولا يستهلكها، تحولت المحاولات لدليل على استحالة ترتيب مثل تلك الزيارة عبر طالبين حديثي التخرج أو عاطلين عن العمل. وكانت فرصتي الوحيدة للتجول في جغرافيا السودان قد سنحت عبر الإقامة الريفية التي نظمتها جامعة الخرطوم لنا في السنة الخامسة. وذهبنا للقضارف وقضينا فيها ثلاث اسابيع ما تزال من أجمل أيام حياتي. وأذكر أنني قرأت في تلك الاسابيع رواية لعبة الكريات الزجاجية مما جعل الرحلة بأكملها أكثر ألقا.
في مقابل تحول السودان الحديث لحالة من التشظي تختفي معها رغبة الناس في السياحة في أرض الله أو تصعب حتى تستحيل. وجدت في الولايات المتحدة وهي الدولة القارة ضالتي. فأصبحت أخرج كلما سنحت لي الفرصة لأقود السيارة لساعات أو أسافر بالطائرة لرؤية نوع من أنواع الطبيعة المختلفة في هذا البلد الرحب. وفي أخر أيام العام ٢٠٢٤ خرجت من كاليفورنا حيث أسكن وأنطلقت نحو الشرق في رحلة أود مشاركة تفاصيلها مع القراء. ووجب القول أنني عندما أعقد المقارنة في الأعلى فإنني لا أعني لا جلد الذات ولا التقليل من السودان، إنما دافعي هو المساهمة في رفع حالة التركيز على الكراهية عندنا، وفتح الباب ربما للشاب القاريء ليرى أننا نقف في بلدنا على مساحة شاسعة هي في حد ذاتها كنز وغنى، هذا إن لم تفتح السياحة كفكرة أبواب عقولنا نحو حقيقة القارة الأفريقية نفسها وأنها في النهاية بلد واحد متصل يمكن استكشافه. والسياحة فيه. ما أود قوله هو أن الفقر في النهاية فكرة. ونحن ضحايا فقر النخبة وهوسها بالكراهية كل داخل كهفه ولا أحد يرى الجبل في تعبير أستاذنا عبد اللهي علي ابراهيم.




بدأت رحلتي من جنوب كاليفورنيا حيث أسكن نحو لاية اريزونا وتوقفت لتناول وجبة الفطور في مطعم بيغي سووس وصوره في الاعلى. المطعم حالة أمريكية خالصة. كلاسيكية. فهو في نفس الوقت مطعم يؤدي وظيفة Utilitarian كما ينظم الامريكيون كل حياتهم. يقف على جانب الطريق السريع أو Route 66 الشهير. وهو الطريق الواصل بين شيكاغو الغرب الاوسط ولوس أنجلوس في الجنوب الغربي لأمريكا. وهو طريق تاريخي يسمى ب "الطريق الأم" وتم انشاؤه في ١٩٣٨م. والمطعم على هذا الطريق وبالقرب من محطة قطار يؤدي وظيفة مهمة للمسافرين. ويقدم الإفطار الامريكي التقليدي (وهو أكل دسم غير صحي بالطبع). لكن مع مرور الوقت تحول المطعم نفسه ليكون معلما تاريخيا على طريقته. فموقعه أجبر ربما الكثير من المشاهير على مر التاريخ على التوقف عنده، وتحولت صورهم وتوقيعاتهم وذكرياتهم في المطعم إلى متحف على جدرانه. ويمكنك أن تفكر في أن هذا المطعم قد صمد منذ العام ١٩٥٤ أي يمكننا أن نقول أن البرلمان السوداني الاول في ١٩٥٣م هو ربما أقل رسوخا من هذا "المتبخ" كما كان يقول جدي علي رحمة الله.
بعد تجاوز جبال كاليفورنا تدخل لما يعرف ب"الصحراء العالية High Desert" وهي منطقة تكاد تكون خالية من السكان اللهم إلا من بعض المدن الصغيرة هنا وهناك. وبدأت مؤخرا في التوسع سكانيا كما بات يحدث في أغلب المناطق في كاليفورنيا. وبين الصحراء العالية وصحراء الموهافي في الطريق لأريزونا فرق رئيس ربما. وهو أن الصحراء العالية هي صحراء مسكونة بشجر الجشوا. وشجر الجشوا هو نبات صحراوي بارع الجمال. يحول مناطق الصحراء في كاليفورنا لطبيعة رائعة. ووجت عموما بين سكان كاليفورنيا وسكان ولايتي أريزونا ونيو ميكسيكو هنالك عشر لما يعرف بالنباتات الصحراوية. وأربي في منزلي الكثير منها وهي للمفارقة أحيانا أكثر جمالا من حيث اللون وغرابة الشكل من النباتات الأخرى الغير صحراوية.
عندما تتخطى الصحراء العالية وصحراء الموهافي فستدخل مباشرة في المنطقة بين ولايتي نيفادا وأريزونا حيث هنالك الجانب الجنوبي من "الأخدود العظيم Grand Canyon" وبخلاف الأخدود العظيم كمعلم طبيعي مهيب فإن هذه المنطقة تثير أعمق الاهتمام أذ تقود فيها أحيانا كثيرة داخل محميات السكان الأصليين. وكنت قد توقفت مرة في محمية أمة النافاهو Navajo Nation وأكلت في مطعم من مطاعمهم كان عبارة عن ما نسميه راكوبة وحوله كلاب ضالة ذكرتني الخرطوم ومطاعمها الشعبية. وتفاجأت أن الرجل من النافاهو أمامي كان ما يزال يتكلم لغته، وكان للمفارقة يشاهد اليوتيوب و يضحك مع صاحبة المطعم وعندنا سألته مما تضحك؟ أجاب: من ترمب وفرجني على فيديو ساخر من ترمب كان يشاهده. وتعجبت من سخرية القدر.
عموما وصلت في النهاية لهدفي الاساسي وهو رؤية الأخدود العظيم مرة أخرى. والأخدود كما يظهر من الخريطة أدناه هو مساحة شاسعة من الجبال والتضاريس الرهيبة ويمكنك أن تشاهده بالتالي من مواقع مختلفة وتصاب بنفس الدهشة الأولى مرة بعد الأخرى.
أدناه بعض صوري على الأخدود:



في طريق العودة نزلت في فندق بقرية صغيرة جدا تدعى Meadview وهي قرية يسكنها أناس أغلبهم متقاعدون يبحثون عن هدوء الصحراء والجبال، حيث لا توجد مثلا شبكة هاتف في هذه القرية ويمكنك أن تسمع فيها همس الناس ووقع خطوات مشيهم من شدة هدوءها. وكذلك لعزلتها وقلة الاضاءة في الليل ففي ميدفيو يمكنك أن ترى النجوم واضحة في الليل. بخلاف أحد جوانب المجتمع الأمريكي (نيويورك، سان فرانسيسكو، شيكاغو ألخ) فإن الكثير من الامريكيين يهربون من المدن إلى فيافي الهدوء والسكينة ولا ألومهم. النوع الآخر من سكان ميدفيو هم هواة صيد السمك. فالقرية تقع بالقرب من أحدى أكبر البحيرات الأمريكية الناتجة عن خزان أو سد هووفر وهي بحيرة Mead. وبحيرة ميد هي مكان خلاب بين الجبال للابحار وصيد السمك. وتجد في مطعم القرية (أو بارها) معلقا صور الأسماك الكبيرة التي قام الناس بصيدها ويتباهون بها كما يشيع بين الأمريكيين. وقمت بتسجيل حلقة بودكاست مع الصديق خالد الفيل من فندق تلك القرية مما أكسبها ربما ذكرى أكثر جمالا.
من هناك قفلت راجعا. وفي طريقي توقفت بخزان هووفر Hoover Dam. وخزان هووفر هو علم معماري وهندسي يفخر به الأمريكيون. تم بناؤه في خلال فترة "الكساد العظيم Great Depression" في ثلاثينيات القرن الماضي. وقمت فيه بجولة منظمة من قبل ادارة الخزان لتعريف السياح بتاريخ السد. وتجد أن الصرح المادي قد تحول بفضل رؤية المشروع الوطني الامريكي عموما إلى صرح لخلق الوطنية الأمريكية وتجديدها. فيصطحب الناس أبناءهم في زيارات في عطلة الاسبوع للسد وتنظم المدارس زيارات للطلاب ويتعرفون عبر تلك الزيارة ليس على ميكانيكا أو هندسة السد بل يعرفونه كتاريخ إجتماعي: كلمنا المرشد عن أن إنشاء السد خلال فترة الكساد العظيم كان لرفع الروح المعنوية للأمة وتوفير فرص عمل للكثير من العمال الامريكيين الذين فقدوا وظائفهم. وكلمنا عن أن إنشاء السد بين اريزونا ونيفادا في منطقة حدودية، وإن بحيرته شملت ولايات عدة مجاورة، جعل من عملية التخطيط له في نفس الوقت عملية تفاوض سياسي وإجماع من ثم بين قطاعات أمريكية واسعة. وكلمنا المرشد عن أن وجدان الامريكيين وقتها كان على عداء، إن شئت، مع نهر الكولورادو، الذي حول حياة الكثيرين على التخوم Frontier إلى حياة شاقة بفيضانه الدائم غير المتوقع، وكان السد نوعا من ترويض الطبيعة القاسية التي واجهها الامريكيون على التخوم.
فوجدت في الجولة السياحية على السد متعة كبيرة. إذ امتزجت الهندسة بالتاريخ الاجتماعي في ظاهرة ملهمة. وتذكرت مرة كنا زرنا فيها سد جبل أولياء مع الأصدقاء محمد بكري ومحمد الزين وعمرو حسن وأكلنا بالقرب من السد سمكا وقطعنا الجسر فوق السد مشيا على الاقدام وأذكر أنني قرأت فقط تذكارا مكتوبا حول بناء السد من قبل الحكومة الانجليزية. لاحقا بنينا سد مروي وقامت الحكومة الشمولية بتنظيم رحلات بائسة للطلاب ليروه. وأستمروا جميعا في كراهيتهم للوطن إذ لا تربي الحكومة الشمولية في الناس غير الكراهية وإن أرادت غير ذلك.





أطلقت الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر وحتى الآن عصر ما يمكن وصفه ب "الامة الديمقراطية الكبرى" وهي حالة تعبر عندي عن قدرة النظام الديمقراطي على حكم مساحات جغرافية واسعة وأعداد سكانية كبيرة وأنواع عرقية مختلفة بصورة مستقرة. وربما ينسخ الاوروبيون بعد حروبهم القومية الطويلة نفس التجربة حاليا في شكل الاتحاد الاوروبي رغم مشاكلهم المستمرة (وهي مشاكل أغلبها صادر من العقيدة القومية الاوروبية الضيقة والتي للأسف تسللت لنا كسودانيين مقلدين لأوروبا رغم أنها بلا جذور بيننا في الحقيقة). وأرى أن عجلة الديمقراطية حال وصولها لأفريقيا بصورة متجانسة سوف تفتح باب "الامة الأفريقية الكبرى" بلا كثير عناء حتى. وكعاشق للترحال قبل أن أكون سياسيا حتى، أجد في حلم الوحدة الأفريقية متعة سياحية قبل أي شيء أخر. فلا شيء أجمل من رحلة بالسيارة من بلد لآخر ومن مجتمع لآخر في أمان وبلا حواجز يخلق الناس عبرها الذكريات.. والتاريخ.
أرجوا أن تقوم بالأشتراك في المدونة. أرحب بتعليقات القراء في الأسفل. وأرحب كذلك بالتواصل عبر ايميل المدونة
mahmoud@zalam-blog.com
أخيرا أذكّر بأنه يمكن الأشتراك في قناة المدونة على واتساب عبر الرابط.