في نفس سياق المقال حلقة حول الديمقراطية عقدها معي مشكورا الصديق خالد الفيل
مقدمة: لا يحزن إلا الكاذب..
إذا التزم الكاتب بأدبيات العمل النضالي السوداني، فهذه اللحظة هي لحظة الشعر. يمكن التهكم على دورة العملية السياسية السودانية: ثورة - انقلاب - ثورة، بدورة مصاحبة لها في الإنتاج السياسي هي شعر - مقال - شعر. العملية الأدبية تبدأ بالشعر النشيدي، أصبح الصبح فلا السجن إلخ. مع تحول العملية السياسية لعملية واقعية Real Politique، يبدأ كتاب المقال بالعمل، بينما يأخذ الشعر منحى طفولي خالي من الجمالية، وأخيرًا تعود العملية للحظة شعرية أخرى.. كل ما كنا نغنيه على شارع النيل تغيب إلخ ألخ. من المهم، والمفيد، ملاحظة الشكل الكوميدي لهذه العملية. متمثلًا في طبقتيها. ليس تهكمًا فقط، بل كعملية وعي عام. والوعي وإن كان عملية جادة إلا أنه لا يكتمل بغير حس الفكاهة.
ما أود قوله هو أن الكتابة عن (الخطأ) بعد نهاية الدورة السياسية/التاريخية هو بديل جيد للرثاء. وأن تحليل الخطأ، طالما كان صادقًا، هو بالتعريف استعداد لبناء جديد، وهو بالتالي ينتمي وجدانيًا لمجال مختلف عن مساحة الأسى والإحباط. بصورة عامة، فإن التزام الإنسان بالحقيقة هو عملية مضحكة بالمعنى الإيجابي للكلمة، إذ لن يتخيل الواحد منا أن المناضل الجزائري كان يشعر بالحزن في أثناء معركة خاسرة مع المحتل. الألم ربما. غضب ربما. لكن "الحزن" كفئة تعبيرية لن يكون حاضرًا. وسبب ذلك هو أن ارتواء الظمأ الوجداني للحرية عند الإنسان هو رهين السعي إليها وليس تحققها، عملية السعي وعملية التحقق، بمعنى أخر، هما نفس الشيء.
الدورة الخبيثة إذن، ثورة - انقلاب - ثورة، هي مجرد تعبير عن عدم الصدق في السعي نحو الحرية. التعبير الذي يفضحه الشاعر بعد نهاية الدورة: الحزن كفئة تعبيرية متكررة في الشعر السوداني بعد الفشل، هو تعبير عن عدم القدرة على رؤية الجمال في العملية نفسها وليس النتيجة، وسبب عدم القدرة هو عدم الصدق.
١. ديمقراطية واحدة، أم ديمقراطيات؟
في واحد من أفلامي المفضلة Cloud Atlas يحدث حوار لطيف بين مناضلة تم اعتقالها والحكم عليها بالإعدام وجندي من أمن الدولة يحقق معها. تدور أحداث الفلم في مستقبل ديستوبي ما. حيث وصلت الدولة إلى حالة من السيطرة الشاملة الأستالينية. يبدأ رجل الأمن حديثه بترحيب جيد: بالنيابة عن الدولة، ولأجل مستقبلنا المتحد، أود أن أشكرك على هذه المقابلة الأخيرة. ثم يضيف: تذكري أن هذا ليس تحقيقًا ولا محاكمة، نحن نود سماع نسختك من الحقيقة… على هذا ترد المناضلة بإبتسامة متهكمة: الحقيقة مفردة، "نسخ" الحقيقة تسمى "أكاذيب".
أقف أنا في صف التحليل السياسي التاريخي القائل بأن المشكلة في الواقع السوداني هي مشكلة اغتصاب أقلية مدربة استعماريًا للقوة السياسية. وأن الحل هو في الديمقراطية كنظام تأسيس ما بعد استعماري. وأذهب أبعد قليلا من البقية في الادعاء بأن الديمقراطية كعملية سياسية هي هدف في حد ذاتها. هي ليست عتبة للشيوعية أو الاشتراكية أو التنمية إلخ. التحرر الفردي والجماعي في التقرير الديمقراطي هو هدف العملية السياسية، هو روح التاريخ الذي لابد أن يكتمل، وأشياء مثل الاشتراكية أو الشيوعية هي وسائل لتحقيق ذلك. وليس العكس. ما أريده كشخص حر، هو نظام سياسي يحفظ لكل الأحرار الأخرين نفس القدر من القوة السياسية، لا أكثر ولا أقل. أكرر: لا أكثر ولا أقل. من يريدون أكثر، مثل أدعياء المبادئ فوق الديمقراطية هم شموليون. ومن يريدون أقل، مثل أولئك المستعدين للمساومة على المبدأ الديمقراطي، هم خونة.
يمكن ملاحظة أن التعدي على المبادئ العامة للاستقلال الفردي (حرية التعبير، الحق في المساواة أمام القانون، الحق في الخصوصية ألخ) أصبح مقترنا اليوم بالتعدي الممنهج على السيطرة الديمقراطية على الألة البيروقراطية للدولة. ويتم هذا التعدي بصورة أساسية في شكل التزام فئة ما بشيء سام أعلى من هذه المبادئ. أو التبرير لهذا التعدي بالخير العام (الصحة العامة، الضرورة الاقتصادية إلخ). هذه الحالة من تجاوز الدولة وبيروقراطيتها للآلية الديمقراطية (في شكل ما يسمى بمؤسسات الخبرة أو التكنوقراط) بات السمة العامة للحوكمة اليوم. العملية الديمقراطية في المقابل ترفع مؤسسة السياسة على ما سواها. وتؤدي لتسييس صحي لكل قطاعات المجتمع بحيث تخضع كل المؤسسات للإرادة العامة، بدلًا عن أن تخضع الإرادة العامة لعقل المؤسسية والبيروقراطية المتكلس بالتعريف. عندما يعتقد الخبير الاقتصادي أو الصحي أو التربوي أن من مسؤوليته ليس فقط مجرد قول رأيه بل فرضه، فهو يستحق المحاكمة أمام الصندوق (ثم القانون) بدلًا عن التشريف. هذه الشعبوية هي أساس الحكم الديمقراطي. تسير في اتجاه مضاد للطبقة الحاكمة بمعناها الواسع (الأكاديميا، والجيش، والبيروقراطية إلخ)، ولتقوم بتأسيس حكمها بالتالي فهي دائما ستحتاج لعنف هيكلي واضح، يبدأ بوجود النظرية التي هي بالطبع أقصر الطرق للعنف المركز الناجح.
لاحظ أن الموقع الذي أخذه في هذه المسألة هو موقع الوسط. وليس اليسار. وهذا تغيير نظري أراه مهما: في العادة يتم تقسيم المساحة السياسية إلى يمين/يسار. تقدميون/محافظون. إلخ. نقطة التقسيم هنا تكون بناءً على النظرة حول الاقتصاد والثقافة. أو بكلمة أخرى بناءً على النتيجة وليس العملية. ويظهر ذلك في تكرر النزعات الديكتاتورية في كل من اليسار واليمين. إذا كانت النتيجة هي المهمة، فسيكون كل من الفريقين مستعدًا للوصول لها وإن تتطلب ذلك قدرًا من السلطوية أو الشقاق الوطني. الكاسب الأكبر من هذا التقسيم عادة يكون "الوسط". إذا نظرت لأغلب الدول حول العالم حاليا، ابتداءً من الديمقراطيات الليبرالية ونهاية بالأنظمة الشمولية وحتى للدول الفقيرة، فستجد أن الأنظمة محكومة بأحزاب واتجاهات الوسط: بعض من الحريات العامة مع التزام بالأصول؛ ثقافة وطنية معقولة بلا تعدي على القوميات الأخرى، اقتصاد سوق مع بعض التخفيف بالرعاية. والطريقة التي تحكم بها أحزاب الوسط هي تحديدًا عبر تقسيم الطبقة العاملة أو الأغلبية إلى ضدين: يسار/يمين، متطرفين وبالتالي غير فاعلين سياسيًا. ثم يطرح خيار الوسط كشيء معقول أو واقعي.
إذا رسمنا هذه العملية في شكل هندسي فسيكون في الأعلى الوسط، وعلى جانبيه القوى المتصارعة بحدة. ويجب ملاحظة أن الوسط بالإعلام الرسمي وألة الثقافة العامة، وبالأليات السياسية للتفريق والسيطرة يسعى لخلق أقصى أنواع الاختلاف والشقاق بين الجانبين. ويستثمر في هذه العملية منتصرًا في أغلب الأحيان. لكن ما هو هدف الوسط وما الذي يجعله مختلفًا عن الأخرين؟
بينما يركز اليسار واليمين على نتائج بعينها. فلل "وسط" غرض أساسي مختلف: الحفاظ على النظام كما هو. ما يعطي الوسط قدرته على التأثير هو عدم اكتراثه بالنتائج، وتركيزه على استمرار عملية سياسية اجتماعية معينة. لن يكون مهمًا مثلًا إذا تم تقرير مجانية الصحة في الولايات المتحدة، طالما تم ذلك داخل نظام انتخابي متحكم فيه وبصورة جذرية عبر المال. وفي المقابل لن يكون مهمًا بالنسبة للطبقة الحاكمة إذا وصل شخص رجعي مثلا ترامب للحكم. كل هذه الانحرافات يمينًا ويسارًا هي أمور جانبية بالنسبة للهدف الرئيسي للوسط السلطوي وهو ضمان استمرار عملية بعينها. إذا نظرنا للأحزاب الوسطية سنجد أنها في أغلب الأحيان، تتكون وتدخل العملية السياسية لأن القوى المسيطرة على الاقتصاد والمجتمع تخشى من تغير جذري يهدد مصالحها العامة. يتم تلفيق موقف سياسي عام يبشر بالحفاظ على الواقع كما هو. ويتم تبريره بأن كل الخيارات الأخرى هي خيارات متطرفة. هل تريد ماري لوبين؟ أو بعض الشيوعيين المتطرفين؟ لا.. حسناً صوت لإيمانويل ماكرون. هذه الوصفة، وبتنويعات مختلفة حسب المجال العام للدولة المعينة، هي العملية السياسية الأساسية في الواقع الحالي.
بصورة جدلية في المقابل، لابد من تقسيم الوسط نفسه لقسمين. ما يبدو أنه نهاية التحليل هو دائما البداية الصحيحة للوصول للهدف. ما يبدو أنه موقع ممل غير جدير بالاهتمام، هو في الحقيقة نقطة يمكن عبرها إكمال المشهد والتموقع بداخله. يكتمل الشكل الهندسي بفصل الوسط لقسمين بينهما تناقض، ويتم ذلك بتخيل نوع أخر من الوسط: إذا عرفنا الوسط بأنه موقف الأغلبية الديمقراطية، فسيكون الوسط في الأعلى يمثل سيطرة البرجوازية على هذه الأغلبية (حرمانها من الخيارات الحقيقية، هيمنة عبر الإعلام، تحويل العملية الديمقراطية لعملية معتمدة على المال، أو بالتخويف العسكري)، وفي مقابل هذا الموقع، يوجد في الأسفل موقع الوسط الجذري متمثلًا في الأغلبية الديمقراطية معرفة بشكلها الاقتصادي (الطبقة العاملة). وبينما يتجه التأثر من الأعلى نحو الأطراف تفريقًا (خلق تناقض جزافي غير حقيقي بين العمال اليمينيين واليساريين)، يتجه التأثير في شكله الجذري نحو تركيز القوة في موقع الوسط بتجاهل الخلافات الثانوية بين الطبقة العاملة. إذا نظرنا للنقابة كمؤسسة مثلًا، فهي لا تقوم عبر التمايز بين الطبقة العاملة، يمينًا أو يسارًا، محافظون ضد تقدميون، بل عبر عملية التخلق العام للطبقة العاملة في شكل المؤسسة العابرة للقضايا الثانوية، ولهذا التخلق شكل واحد ممكن: التركيز على العملية الديمقراطية كهدف. لكل عامل صوت واحد مقابل كل عامل أخر. التركيز على العملية الديمقراطية وليس نتيجتها هو، بمعنى أخر، الطريق نحو تشكل موقع الوسط الجذري.
أعود هنا للقول بأنه ليس هنالك نظرة واحدة للديمقراطية حاليًا. هنالك النظرة الفوقية للديمقراطية، بوصفها العملية التي تقاس بنتيجتها (ويتم هندسة هذه النتيجة لتوافق مصالح الطبقة الحاكمة)، وهنالك النظرية الجذرية للديمقراطية بوصفها العملية المفتوحة التي هي هدف في حد ذاتها. والتي هي في مصلحة الأغلبية العامة، سبيلها للتوحد كوسط جذري وحكم نفسها ضد أقلية استعمارية تريد الحفاظ على الواقع كما هو. ولأن نسخ الحقيقة هي أكاذيب. فالديمقراطية الموجهة بمبدأ أعلى من رأي الأغلبية مثل التي بات يبشر لها أغلب الطبقة المثقفة السودانية هي مجرد أكذوبة.
٢. ما هي الديمقراطية؟ … أو ما هي السلطة؟
بالنسبة للعقل المستعمر فالديمقراطية هي الغرب. يتم تعريف الديمقراطية في هذا السياق بنتيجتها المادية (النجاح الاقتصادي، التنمية، انتشار الحريات الخاصة إلخ). وبهذا التعريف للديمقراطية يتم فرض شرط على الطبقة الديمقراطية (أو الديموس Demos) أنفسهم: لتحكموا أنفسكم فعلًا، لابد من أن تقرروا كذا وكذا. وفي هذا الإطار فإن الديمقراطية تكون فعلًا أفضل أداة في يد الإمبريالية المعولمة: على الكل أن يكونوا ديمقراطيين مثلنا… ويعني ذلك أن يكونوا مثلنا فعلا.
يذهب التفكير الجدلي في مسار فهم الأشياء لفهم كل شيء بضده. لا يمكن فهم الشيء فعلًا إلا بفهم الطريقة الجدلية التي تمخض هو عبرها من ضده. لذلك لفهم الديمقراطية لابد أولًا من فهم السلطة:
ظهرت الديمقراطية أول مرة ليس بصفتها نظامًا جيدًا (وهي ما تزال نظامًا سيئًا للحكم، لابد من تذكر ذلك دائما، خصوصا بالنسبة للمبشر بالديمقراطية ليس كحل جمالي تهويمي، بل كجزء من مشكلة اجتماعية/فلسفية) بل بصفتها الطريقة الوحيدة للتخلص من السلطة. ذلك أن للسلطة، أي سلطة، منطق يجعلها تتوسع وتتركز حتى تسيطر على كل فرد في أدق تفاصيل حياته. فمنطق السلطة يفرض استمرارها، لتكون القيادة ناجحة، لابد أن تكون ناجحة أولًا في تأكيد موقعها كقيادة. وهذا النجاح لن يأتي بغير إبعاد الخصوم وتدميرهم، ومن ثم تصبح السلطة مكبلة بهذا النجاح: لمن يمكن تقديم العرش وقد تم تدمير كل المرشحين؟ هذا المنطق وإن بدى مضحكًا، فإنه يعمل بوضوح داخل الكثير من الأنظمة التي بدأت كعمليات تأسيس حسنة النية. ما يحدث هو أن مستحق السلطة، ولأنه يستحقها، فهو يتمسك بها بشراسة أكبر، وعندما يفقد هذا الاستحقاق فإنه يكون من القوة بحيث يمكنه هندسته؛ يمكن ملاحظة ذلك في أن الأنظمة الشمولية الحديثة كسنغافورا والصين ورواندا، تقوم على نمط من هندسة الشرعية من أعلى: أنت تحصل على الأمان، المعيشة الجيدة، التنمية، مستقبل مستقر لأبنائك، وكذلك أنت معرض لمقدار من الإرهاب الضمني غير محدود، ومعرض لمستويات من أنواع التخدير الإعلامي والتلاعب النفسي الجماعي بالشعب: أنظمة تجسس على الخصوصية، دراسة تقنية للسلوك الجماعي، مخاوف الناس، مكامن قلقهم، تتحول لأدوات إعلامية موجهة بدقة. النتيجة لا تكون فقط تكون شرعية سياسية للنظام، بل وكذلك قبول سايكولوجي به في قلوب الناس. هذا الهيكل الصارم لن يكون من الممكن تثبيته إذا لم تكن صاحب السلطة مستحق لها. ملك فيسلوف مثل بول كاغامي أو لي كوان يو. شخص بمعنى من المعاني هو "المستبد العادل". من المنظور الديمقراطي في المقابل فإن مثل هذه الهياكل هو ما نقصده عادة من المقولة (السلطة المطلقة مفسدة مطلقة).
من هذا المنطق قرر هيغل أن أفضل أنواع السلطة هي السلطة غير المستحقة. أقل السلطات سوءا وأكثرها قدرة على الحكم الإنساني بلا إرهاب مبالغ فيه، هي سلطة الملك. ذلك الطفل الذي أصبح بحكم الصدفة الجينية ملكًا. والذي يعبر المجتمع بقبوله لهذه العبثية عبره عن رفضه للسلطة المستحقة أكثر من قبوله بسلطة الملك. (ولذلك أيضًا يجب القول بوضوح أنه حتى الديمقراطية الليبرالية بكل أجهزتها السلطوية الحالية هي أفضل من أنظمة الحكم الشمولي مهما كانت تقدمية شكلًا).
ولأن السلطة كفكرة وكتطبيق هي شيء عصي على السيطرة العامة. تبدأ دائما مشبعة بحماس الجماهير ثم تنقلب عليهم. نظر أفلاطون في أصل المشكلة باعتباره في (العقلانية) نفسها التي تكتنف المجتمع وتراتبيته. وذهب لأن أفضل وسيلة لإيقاف سلسلة العقلانية التي تؤدي لتوسع السلطة منطقيًا هو عبر تحجيمها بنظام (القرعة). لإلغاء القدرة الآلية العقلانية للسلطة على التوسع لابد من تكبيلها بنظام غير عقلاني عشوائي. وصل العقل الانساني لفرضية قائلة بأن أفضل قاض هو مجموعة مختارة عشوائيًا من عوام الناس تسمى المحلفين. "العشوائية" في اختيار المحلفين هي سبب تفوقهم كأساس للعدالة على "المهنية والكفاءة" عند القاضي المدرب. تحديدًا لأن المهنية والكفاءة نفسها تفتح مجالًا لفساد في العدل عصي على الكشف. الديمقراطية كنظام غير قابل للتنبؤ بنتيجته، يضيف قدرًا من العشوائية على العملية السياسية تؤدي لاستحالة الفساد المنهجي داخلها (بالطبع فإن الديمقراطية الليبرالية الحالية تفتح الكثير من الاسئلة حول إمكانية النخبة بمرور الوقت على السيطرة عبر الديمقراطية نفسها، وبالتالي افراغها من محتواها، ومع أن هذه الاسئلة مهمة ويجب أن تتم الإجابة عليها إلا أنها خارج إطار هذا المقال) ... وكلا الفكرتين (الديمقراطية - المحلفين) تعود في أصلها للعقل الأثيني الذي جر الوعي الانساني من التهويم إلى الفلسفة. من التصوف إلى المنطق.
٣. روبيسبيير.. العنف والديمقراطية
من هذا الأصل في عبثية الجمعية العامة المنتخبة، خرجت الثورة الفرنسية بثنائية (الحقيقة/العنف): لتزول السلطة المركزية يجب أن يحل مكانها "الناخب" أو "المواطن". وليحدث ذلك فلابد من العنف. العنف غير الموجه بأي ضرورة. بل القادم من سلطة التقرير بالأغلبية متغيرة المزاج. التتابع التالي: الملك، الديمقراطية، العنف. والذي قضى على الأسرة الحاكمة تحت أسنة المقاصل. استمر بلا توقف لأن الأغلبية قررت بعدها أن منفذ التقرير الديمقراطي نفسه (روبيسبيير-دانتون-سانت جست) هو كذلك هدف مشروع للمقصلة. الأغلبية هنا بدلًا عن التعبير عن شيء ثابت مستقر، فهي تعبير عن غياب الثابت المستقر. هي تعبير عن فراغ في مساحة السلطة يستحيل ملؤه. والحركة الانتخابية والسياسية المحمومة، والعنيفة، هي تعبير عن هذه الاستحالة.
رفقة هذا الشكل العبثي للعملية السياسية، صاحبت الثورة الفرنسية حالة عمل اجتماعي وفني محموم. على جدران الجمعية العامة علّقت لوحة (مقتل الشهيد مارات). مارات الكاتب الثوري الذي قتل عبر مؤامرة من أنصار الملكية، رسمه جاك لويس ديفيد، عائمًا في دمه وخلفه مساحة سوداء كبيرة. علق أحدهم أن هذه المساحة السوداء تمثل "الجماهير". ربما العكس هو الصحيح: الجماهير تمثل مساحة الفراغ في السلطة. وجدت الجماهير في الوعي الثوري الفرنسي وقتها لأن السلطة قد قتلت، هي (الجماهير) أو الأغلبية مجرد شاغر لمساحة العدم. مساحة العدم كذلك أرقت أحد الشعراء المتأثرين بالثورة الفرنسية وهو مالارمي، وبات "الشرخ"، أو الانفصال، هو موضوعه المستمر للإنتاج الشعري. في المقابل خلقت العملية السياسية المحمومة، مجموعات مختلفة من القواعد بداية من الثوريين المتطرفين "السان كولوتس" ونهاية بأولى الحركات النسوية الجذرية في العصر الحديث. اختفاء السلطة، أو إفراغها ديمقراطيًا، يرتبط دائمًا بظهور مقابل لها في القاعدة هو المجتمع الحر. ويؤمن أنصار الديمقراطية بهذا التخلق كحل لمشكلة غياب السلطة. لذلك ارتبطت الجذرية الديمقراطية في لغة روبيسبيير دائمًا بالحديث عن "الثقة في الشعب".
هذا الجدل في داخل السلطة وإمكانية إفراغها، ينتج الديمقراطية والحرية الاجتماعية في نفس الوقت: فراغ وفوضى، وحرية وعملية إبداعية. جانبان للعملية السياسية الديمقراطية لابد من فهم أنهما ساقان لنفس المشروع. ليس هنالك ضمان ديمقراطي. هنالك الإرادة المتغيرة للجماهير. ولكن مع غياب الضمان توجد الإمكانية. والشعب في وجود الإمكانية هو شيء في وضع التخلق Becoming. الكلمة (الدولة) في الانجليزية State تعني الثابت. وفي العربية تعني الشيء في وضع التغير. الفهم الديني الإسلامي للدولة أقرب للديمقراطية إذن من الرؤية المسيحية: قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء. وبما أن الله لا يظهر في الارض، فيمكن اعتبار أن التعبير اليوناني القديم: يد الشعب هي يد الرب. هو أقرب تفسير لعلاقة الديمقراطية بعملية التخلق. ما يريده الشعب، كإطار مفتوح غير محدد بضرورة معينة، هو ما يريده الله بمعنى من المعاني. وفي الحالتين فإن النتيجة هي أن الثابت هو التغيير. الحرية الاجتماعية الناتجة من الديمقراطية لا تأتي لأن الاغلبية تحل محل السلطة الدائمة، بل لأن الأغلبية تمثل حقيقة فراغ السلطة. تتابع لتقريرات مؤقتة. ومتعارضة أحيانًا. لا يستطيع مواطن ما أن يجزم مستبقًا بأنه في صف الأقلية أو الأغلبية إلى الأبد. حتى الاصطفاف والانقسامات الإثنية والدينية التي تبدوا أنها هنا لتبقى، ما تلبث أن تتغير مع مرور الوقت. ويمكن لشخص من قبيلة ما أن يكتشف أنه كذلك إسلامي أو شيوعي. أن تكتشف امرأة أن هويتها البايولوجية أهم من بايولوجيا العرق فتتحول إلى نسوية، أو أن يؤدي التغير الديموغرافي بضرورات الهجرة والعمل إلى تغير جذري في السياسة المناطقية. الافتراض الأساسي في العملية الديمقراطية هو أنها انعكاس لجذر حرية ما في كل فرد، وبالتالي فهي بالتعريف غير قابلة للقولبة في التخيل البليد للمجتمع كثابت قابل للتصنيف الدائم. ما تسعى له النخبة في المقابل هو قطع الطريق أمام التعاقد الأساسي نفسه بإخافة الفئات المختلفة اليوم بعضها ببعض. وايهامها بأن النخبة ومبادئها هي الحامي للكل من الكل. بينما تؤكد كل الأحداث العامة في الأمس واليوم بأن ادعاء الإنصاف والحيادية من أي كان هو كذب. وهو كذب لأنه غير ممكن هيكليًا، غير ممكن نظريًا: "الماسك القلم ما بكتب نفسه شقي". أي نخبوي حال إمساكه بقلم التقرير الفوقي العام، فإنه سيكتب على الكل الشقاء إلا هو. وهذا أمر واضح.
٤. جان جاك روسو.. تلطيف الديمقراطية بغير لطف…
بدأ روسو تفكيره عن التعاقد الاجتماعي الديمقراطي من تخيل الإنسان في وضع ما قبل الدولة. الوضع الطبيعي. حيث للإنسان حرية مطلقة بلا تقييدات اجتماعية. في هذه الحالة يكون الإنسان سيد نفسه. لكنه كذلك يعيش متوحشًا. حال رغبة الإنسان في الدخول في المجتمع، ليحمي مصالحه، فإنه يقبل بتعاقد من نوع او آخر مع الاخرين: لا تقتل، لا تسرق إلخ. هذه العملية التعاقدية لا تقوم على القبول والرفض المعلن بل الضمني. لم توقع القبائل القديمة على صكوك للتعاقد بل قامت العلاقة بين أفرادها عبر التقرير الضمني في الاسرة ثم العشيرة إلخ. خلقت القيود الاجتماعية على الافراد عبر العادات والمعتقدات وغيرها. الوجود الاجتماعي إذن هو بالتعريف حالة تعاقد سياسي طوعي وقسري في نفس الوقت.
في الدولة الحديثة وصل التعاقد الاجتماعي لنقطة جديدة بظهور القانون. والقانون ظهر عبر الحرب. القانون في أصله هو دائمًا معاهدة سلام ما. يدخل الجيش منتصرًا بالعنف المؤسس للدولة، ويقوم بكتابة صكوك القانون كنهاية لمرحلة العنف المؤسس وبداية لمرحلة العنف التأسيسي. وتتحول الراية من الجيوش إلى أجهزة الشرطة، التي هي "في خدمة المجتمع". التوحش، في الوضع الطبيعي، عاد إذن بصورة جدلية متجسدًا في التعاقد الاجتماعي الحديث. وهنا تحول التعاقد الاجتماعي لسلسلة من القوانين المبنية على العنف الضمني. وتم تمدين الإنسان عبر تحويله ل "رعية" لملك ما، أو لنظام قومي ما.
أقترح روسو أن تتأس دولة أخرى مختلفة على إلغاء السلطة. بحيث لا يظهر القانون كنتيجة حرب، بل كقبول طوعي من الكل. في هذه الحالة لابد من أن يقبل أغلبية الشعب الساحقة بنظام يضمن للكل نفس القدر من السلطة السياسية. أقترح روسو أن يتم التعاقد بين الكل على التقرير الديمقراطي. وبذلك يخرج التعاقد الاجتماعي من التوحش للمدنية الحقة. ولأنه لابد من وجود مؤقت لسلطة ما تم وضع التقرير بيد الأغلبية.
من المهم فهم هذه السلسلة: لم تبدأ الحلقة من نقطة الأغلبية وتقريرها لأن هذا ليس الهدف. بدأت من السلطة، ثم إلغاء السلطة، ثم استبدالها بالتقرير الديمقراطي كتعاقد ثم قبول مؤقت بقرار الأغلبية كحل وحيد ممكن. الديمقراطية هي نتاج كل هذه الخطوات معًا. لذلك أعتبر روسو أن التقرير الديمقراطي يبدأ وينتهي لحظة التعاقد وليس في لحظة التقرير: أقبل أنا بالديمقراطية كنظام في يوم الاقتراع وليس النتيجة. وبالتالي فإن النتيجة هي ليست تعبيرًا عن رأي الأغلبية، بل عن "الارادة العامة". تقف حريتي كفرد في صف القرار الديمقراطي بغض النظر عن محتواه. لأن العملية هي ليست عملية منافسة، بل "تعاقد" له أسبابه.
بذل أعداء الديمقراطية في السودان (النخبة ومثقفوها) جهدًا ذهنيًا كبيرًا ليجدوا خللًا في هذه العملية. فتمخضوا عن السؤال التالي: ماذا إذن لو قررت الأغلبية إنهاء العملية الديمقراطية نفسها؟ هذا التساؤل ينتمي لعقل تجريدي محدود القدرات. فهو كأن يسأل الواحد منا: ماذا إذا قرر الأب أذية ابنه، ليدلل على ضرورة إنهاء نظام الأسرة بالكلية. الإجابة بالطبع ذلك ممكن (الأب عمومًا يمتلك فرصة جيدة لتحقيق أقصى الأذى بأبنه)، لكن رغم ذلك لم يقرر الناس أن نظام الأسرة سيء. لأن هنالك قوى أخرى تتحرك في العلاقة بين الأب والابن تجعل هذه الأذية مستبعدة لأقصى حد. بالمثل فإن عدم ثبات الأغلبية، ومصلحة كل فرد في ضمان حريته الخاصة، وأليات الضغط الديمقراطي غير الاقتراعي، أدت دائمًا لأن يتجه الناس ديمقراطيًا نحو تأكيد سلطتهم الجماعية وليس تدميرها. في أغلب حالات التقرير الديمقراطي يصوت أغلبية الناس في اتجاه تأكيد حرية التعبير والحق في المحاكمة العادلة والمساواة الخ، لأن ذلك ببساطة في مصلحتهم. أما الاحتمالية المستبعدة فهي (مثل الأب) خطر ممكن يجب تحمله. (المثال الوحيد الذي وجدته النخبة هو تحول ألمانيا إلى ألمانيا النازية، وهو مثال سيء وينم عن جهل طفولي بالتاريخ، لأن هذه العملية تمت عبر انقلاب عسكري قمعي ومؤامرة تم فيها إرهاب ممثلي الشعب علنًا، وليس عبر أي عملية ديمقراطية. وذلك موثق تاريخيا بصورة جيدة).
٥. نخبة غردون … والمهدية كقشور الموز…
في الحقيقة فإن الشهادة في سبيل الشعب والوطن هي عمل نبيل بالتعريف. عبرت الشاعرة نجلاء التوم عنه قائلة بأنه مما لا يمكن التكلم فيه. وصدقت. إلا أنه لا الثورة ولا الشهادة ولا أي تضحية أخرى ستكون قادرة على تدمير الهيمنة الاستعمارية لنخبة غردون على السودان بلا فهم نقي وواضح لجدل الديمقراطية والاستعمار.
حالة أخرى من حالات الشهادة العامة يجب تذكرها ونحن بصدد دراسة قدرة المجتمع السوداني على التعاقد والديمقراطية: كرري.
كرري أو كما سماها الانجليز معركة ام درمان، كانت في الحقيقة معركة بين طرفين غير متكافئين تمامًا لكن لا يفصلهما فارق كبير. لاحظ مثلًا أن الجيش الأثيوبي كان قد هزم الجيش الإيطالي في معركة عدوى قبل موعد كرري بسنتين فقط. الشكل المتخيل حاليًا لكرري هو نتاج هيمنة اجتماعية ثقافية كاملة لنخبة الكلية التعليمية التي تم بناءها كنتيجة لمعركة كرري. الهزيمة إذن، المتخيلة في كرري، حدثت لاحقًا. العقدة الذهنية ليست نتيجة للألم المادي. الألم المادي المتخيل هو نتيجة لعقدة ذهنية. الهزيمة الحقيقية لم تحدث في كرري، بل لحظة تأسيس الجامعة الاستعمارية كصرح تربوي.
في كرري كانت القوى العسكرية بين الجيشين متكافئة إذا تم الأخذ في الاعتبار أن المهدية حاربت في أرضها. ما حدث هو أن الإنجليز كانوا قد اكتشفوا قبل المعركة بفترة قصيرة طريقًا لسلاح سويدي يسمى النوردنفيلت-ماكسيم. ولم يكن هذا السلاح في حسبان المهدية وأدى لتفوق تقني لم يكن من الممكن التعامل اللحظي معه. بالتأكيد، حتى لو انتهت كرري بنتيجة أخرى، فإن رياح التاريخ العام للإمبريالية ما كانت لتتغير كثيرًا. لكن يبقى من المهم أن نفهم جيدًا أن الانتصار الحقيقي والمدهش للعملية الامبريالية كان دائمًا في صعيد الثقافة والهندسة الاجتماعية (أو الأدلجة) وليس التفوق المادي (وما يزال). وذلك مثل أي انتصار تاريخي واسع أخر.
في المقابل فإن نتيجة كرري لم تكن فقط عملية الهندسة الاجتماعية اللاحقة لها. بل كذلك التغير الجذري في الوعي بالتاريخ السابق لها. تحولت الثورة المهدية بعد كرري لمجرد عمل عبثي قام به مجموعة من الدراويش. والدراويش هو الاسم الانتقاصي الذي منحه الإنجليز لجنود المهدية قبل كرري. عملية الخصاء الرمزي نجحت اذن: نحن لم نهزم "الدراويش" فقط، بل حولناهم "رمزيًا" لمجرد دراويش.
الحرب مع المستعمر لم ولن تكن غير معركة على أصعدة الوعي: في الحقيقة فإن العملية الاجتماعية التاريخية التي تسمى تلخيصًا بالثورة المهدية كانت واحدة من أدق المناورات السياسية العسكرية ضد قوة متفوقة. تمت داخل ظروف صعبة وتعقيدات سياسية تطلبت قدرًا كبيرًا جدا من المهارة السياسية ثم العسكرية. بما في ذلك القدرة على صناعة الجذر الروحي لأمة تخوض حرب تحرير وطني. وانتصرت بشكل حاسم ومثير للإعجاب. أنت لن تحتاج لأن تقرأ غير "حرب النهر" لتفهم ذلك بوضوح. ويمكنك أن تلاحظ الغرابة في أن الصحفي في جيش المحتل شيرشل له رواية أفضل من وعيك الذاتي عن المهدية.
المهم هنا هو أن النخبة الناتجة عن الدولة الاستعمارية استلمت راية القيادة الايديولوجية من أسيادها. وبدأت بالعمل العام ضد شعبها باعتبارهم مجموعة من الدراويش. ستكون هذه النخبة عاجزة عن رؤية شيء كالحراك المهدي في الريف. فهي ترى لهذا الريف تاريخا غير تاريخه. وحال جاء الريف يطرق أبواب السياسة تجاهلته أو إن وقف ضدها ألقت عليه قشور الموز.
في المقابل.. فأي حديث عن العمل الديمقراطي بغير العودة للريف سيكون مجرد تسول في المدن. المدن التي ستكون دائمًا مكانًا للتنظيم وتربية الكادر، وخلق المشروع الديمقراطي العام رفقة جيوب العمل الديمقراطي داخلها، وستكون الغلبة فيها دائما لنخبة غردون اللهم إلا إذا جاءها الريف مسلحًا أو كأغلبية ديمقراطية منظمة.
٦. ديمقراطية عد الرؤوس..
مثلما سخر المستعمر من الدراويش، فإنه درب بيننا ألسنة حاذقة لتواصل العمل. وصف أحدهم مرة طلبي للتقرير بالأغلبية بأنه "ديمقراطية عد رؤوس" ساكت. والحقيقة لا أرى عيبًا في عد رؤوس السودانيين. كلٌ منهم له رأيه ومنطقه. كإنسان مكتمل الأهلية. بل أطلب أن يبنى المشروع الديمقراطي على هذا المبدأ كمبدأ محدد أعلى: نتعاقد على القبول بنتائج الاقتراع أيًا كانت. ونعد رؤوس الناس بنزاهة ثم نقبل تقريرهم جميعا.
هذه الديمقراطية، المبنية على فهم للسلطة. والتسبيب النظري لفكرة الإرادة العامة، والمنطق الديمقراطي الأثيني. هي فكرة يمكن عبرها توحيد الطبقة العاملة أو طبقة الأغلبية على أساس واضح. وعملية التوحيد هذه هي أساس عملية التعاقد والعمل الديمقراطي، الاجتماعي والسياسي والفني. عملية إعادة بعث لفكرة قدرة الشعب على حكم نفسه بلا وصاية. وهذه معركة لم تكتمل تفاصيلها بعد.
إذا وضح المبدأ الديمقراطي، وصفت حوله النوايا، فإن فرص العمل السياسي ستكون واسعة. من الناحية البطيئة طويلة الأجل: عمليات التواصل مع الريف، البناء البطيء لبؤر القوة السياسية (المدارس، منظمات المجتمع المدني، الأندية الرياضية إلخ). ومن ناحية إمكانيات المناورة السياسية التكتيكية عبر التحالف والعمل المشترك مع كل من له مصلحة في الديمقراطية. وحتى في حال اختار الناس الخيارات الصعبة مثل العمل المسلح أو السعي نحو الانفصال وغيره، فإن وجود المبدأ الديمقراطي واضحًا سيقلل من فرص الاخطاء الجذرية.
تحليل مشكلة ثورة ديسمبر أصبح واضحًا: تم تأسيس المشروع الثوري على نقطة تناقض خاطئة (حزب المؤتمر الوطني أو الكيزان) بينما هنالك أعداء كثر أخرين للديمقراطية أصبحوا بهذا المنطق ثوريين. ونجحوا بالتالي من منع اي تطور ديمقراطي لا داخل الكتل الثورية (النقابات، لجان المقاومة الخ) ولا على صعيد الوعي والنظرية السياسية العامة (لاحظ أن أهم كتاب نظرية سياسية خرج بعد ديسمبر أو عبرها هو ورقة سلامات وشالو الركيكة التي تمدح داخل صفحاتها الاتاتوركية). نقطة التناقض الصحيحة هي بين الديمقراطيين وأعداءهم. ولكشف النخبة الخبيثة التي تلاعبت بأرواح الناس وضيعت دماءهم، علينا أن نكون على غاية الوضوح في السعي لتعاقد ديمقراطي قائم على التقرير بالأغلبية. هذا التقسيم سيفصل الناس بناءً على مصلحتهم: الأغلبية ستقف معه، وأقلية صغيرة ستقف ضده. وسيكون من الممكن سحقها بسهولة، وإن طال الزمن.
في الأثناء يجب التعامل مع، وفهم، التشكيلات الساعية لديمقراطية موجهة وكسيحة. مثل لجان المقاومة (وبرلمانها المكون من المؤمنين بالثورة تريد أن تختارهم انتقاءً)، على انها تشكيلات تسير في أتجاه خاطئ بحسن نية. وحسن النية له قيمة كبيرة، إلا أنه غير كافي. ولا يتم تصحيح الخطأ بالكراهية، بل عبر الحقيقة. لكن يجب أن تقال الحقيقة واضحة كالشمس: لجان المقاومة بشكلها الحالي ومنهج تفكيرها السلطوي هي خطر على المشروع الديمقراطي في السودان. ومع ذلك فهم شباب جميلون، ربما أخلاقيًا هم أفضل مني، لكن وظيفة الكاتب وما يهمه ويحاسب عليه هو النظرية. "دي ما بنجامل فيها".
المراجع:
1. العقد الاجتماعي جان جاك روسو
2. روبيسبيير أو (العنف المقدس) للإرهاب – مقال مترجم من قبل الكاتب لسلافوي جيجاك. http://nightoftheworlds.blogspot.com/2020/04/blog-post.html
3. لشرح مفصل لفكرة الديمقراطية عند سلافوي جيجاك يمكن للقارئ الرجوع للكتاب الرئيسي من بين سلسلة الكتب اللانهائية لجيجاك. Less Than Nothing.
4. للحديث عن الثورة المهدية بصفتها مناورة عسكرية اجتماعية ثورية شديدة البراعة أستند على شرح ونستون شيرشل لتاريخ ما قبل موقعة كرري في كتابه حرب النهر. يمكن بالطبع الرجوع لمراجع أكثر حيادية ومتوفرة لكن استعمال شيرشل في هذا السياق يزيد المعنى وضوحا: النخبة السودانية، في نظرتها للمهدية، استعمارية أكثر من المستعمر نفسه.
5. استندت في نقدي للجان المقاومة على الميثاق الثوري المنشور في وسائل التواصل الاجتماعي. يعلم الكاتب أن الميثاق يمثل "نوعا" واحدا من التكوين غير المنسجم المسمى لجان المقاومة. وبالتالي أنا أفترض أن هذا النوع يمكن "تعميمه". على الأقل في المرحلة الراهنة.