محمد عبد الرسول: شكل جديد
علينا ان نلحق بالغرب. علينا ننهض مثل بقية الامم. عاد السودان الى حضن المجتمع الدولي. علينا ان سعى نحو مصالحنا... بهذه الكلمات يصرخ الشكل السياسي كل يوم.
والشكل محيط الوجود، لا وجود بلا شكل محيط. لا يوجد الانسان السوداني الا من منظور الاخر الكبير، مركز السلطة الذي يحدد حتى شكل احلام المقاومة. فالمقاومة والسياسة هنا هي في عملية تأليه الغرب. كذلك عندما تتم مقارنة الترابي او عبد الخالق بلينين. او مقارنة عصورنا المظلمة بعصور اوروبا المظلمة، وتخيل تليولوجيا التنوير في التعليم وغيره. حتى الكتب والمجلات العلمية والمقالات التاريخية والمفكرين. جميعهم ضحايا للشكل. كل الامة هي تمثل لشيء ليست هي، لانها متشكلة تحت مظلة الاخر.
حتى الدين، السلوان النهائي للانسان المعذب، فقد قدرته على تخيل العالم من منظور الذات الحرة. فحتى الرب صار تابعا لنظريات الحضارة والحضارة المضادة. ان الصراع بين الرب من حيث هو شكل الوجود الواحد، الممكن، المتحقق، الوجود الاوروبي، وبين الرب كوحي قادر على تجديد روح الامة، انتصر فيه الرب الغربي.
يلغي الشكل التابع في داخله وجود الفرد. وهو بالتالي يربط سؤال الوجود نفسه بسؤال العنف. لا خروج من شكل التابع الا بعنف المستتبع ضد نفسه.
لذلك فالفن الحق هو التلاعب العنيف، الرافض، المنطلق من حقيقة وجود غير مرئي، غير معترف به وغير راغب في الاعتراف به، التلاعب العنيف بالشكل. وهو عملية تغيير الشكل، تغيير نقطة النظر من العالم الخارجي، بما في ذلك نظرة الامة المستتبعة، بقية الناس، للفنان فقط. فهو عملية انتحارية بدرجات متعددة، عملية قتل المجتمع المستتبع، عبر تخيل عدم وجوده، وعملية قتل العالم الحالي، وعملية قتل للفنان نفسه. فالفنان كناظر وحيد الى فنه لابد ان لايوجد داخل هياكل السلطة الحالية والا يحيط به شكلها. وكل ما هو خارج الهياكل الحالية هو في مستوى الصفر، وجود ملغي ذاتيا، شبح شيطاني، او ملاك هائم. الفنان خارج اطار الامبراطورية هو الوجود المكتمل في نفس الوقت. خلق السحر المبني على رغبة الذات نفسها وليس رغبتها في الاخر او ان يراها الاخر. والخلق المنطلق من اقصى نقطة الضعف واللاوجود، الخلق الذي يعري الفرد امام حقيقة عالمه، يلغي العالم بالغائه للفرد وفي نفس الوقت يخلق عالما جديدا بالكلية، هو بالضرورة خلق في شكل الفن نفسه.
ما يجعل من لوحات محمد عبد الرسول بداية ما. هو انها لوحات تقوم على صراع عنيف مع الشكل. ماهو ذلك الذي يمكن تسميته فنا؟ واجابة محمد عبدالرسول هي: الفن هو ما اقوم به انا. ان العودة للذات من غياهب ظلام العوالم، متضخمة تبتلع كل شيء. وفي نفس الوقت عودة الشكل جديدا، هما عملية واحدة. انا هو الفن. هي الرسالة المتحررة الاخيرة للنفس الشهيدة.
يمكنني ان اشرح بلغة السياسة كيف ان العالم الحالي هو مكان البعد الواحد، حيث الكل مستغرق في نظر صوفي لمحراب الحضارة، الكل هو منتج لتلك الحضارة، والتي هي في نفس الوقت البربرية. ان الغاء وجود الانسان الكنغولي من مخيلتنا، واستبداله بالانسان الخليجي الجار الثري او الانسان الامريكي، هو التهويم للافراد عبيدا في محراب الاله الواحد الممكن. لكنه، ومع ذلك، ليس الحقيقة. فحقيقة الامر ان الطيور والزهور والاطفال ونسائم الجو، الطبيعة، والعلم، والتاريخ، معبودات الله وابناؤه، كل شيء في الوجود يشير لحقيقة ان هذا العالم يجب ان يهدم حجرا حجرا وفورا. تلك هي الحقيقة. وهذه الحقيقة لايمكن رؤيتها الا عبر التفجر العنيف الانتحاري للافراد بحيث تخلق على جثثهم فتحات يرى الاخرون من خلالها جلال النور المقدس في الارض الاخرى. ولانه هنالك الحقيقة فهنالك الامكانية. امكانية ان يتخيل الناس شيئا لا يتخيله الغرب. امكانية ان يعيش بدون المركزية المتوهمة للاحلام على انها مشروعية المشاريع الوطنية فقط على اسس التنمية والتحديث واللحاق. لحاق اللهث وراء سرابات متعددة، نرضي فيها الاخر ونفقد فيها ذواتنا.
ربما يشير الشكل الجديد في اعمال محمد عبد الرسول الى ان النقطة التالية من عملية خلق الشكل في وصف الفن هو انا. وانا هو الفن. هي في التماهي مع الضوضاء. فبعد محمد عبد الرسول لم يعد مهما وجود شكل واضح. اطار نظري. علمي. او عملي. لينتج العمل الفني. لقد قام محمد عبد الرسول بتحريرنا من النظرية العلمية و تراتبيات الحزب السياسي والاستراتيجية. فالعمل عند محمد عبد الرسول هو ليس تجريديا فاقدا للمعنى مثل اللوحات المعاصرة ما بعد الحديثة. فمحمد عبد الرسول مربي تقليدي لوحاته تنضح بالمعاني و المآسي والام السودانيين من لدن الابادة الجماعية الى القهر اليومي. وتنضح بالذكرى واليقين. رسائل كلاسيكية من الفنان الى الشعب تذكر بلوحات موت مارات و غورنيكيا. ومحمد عبدالرسول يتحدث عن حقيقة ما، لا عن مناظير متعددة سائلة. الا انه مع ذلك فالشكل في لوحات محمد عبد الرسول هو الضوضاء. ضوضاء الانسان في بداية الخلق، قبل حدوث الكلم.